لماذا يشرد أبناء المتديّنين عن خطا الآباء

الرئيسية » حصاد الفكر » لماذا يشرد أبناء المتديّنين عن خطا الآباء
وقفة-مع-انحراف-بعض-أبناء-الدعاة-والعلماء لماذا يشرد أبناء المتديّنين عن خطا الآباء

قضية تؤرق عددا ليس هيناً من المتدينين والدعاة خاصة، لماذا لا يشبههم أبناؤهم، لماذا لم يسلكوا السبيل ذاته، وآثروا التماهي مع الحالة السائدة في المجتمعات الإسلامية، التي تدفقت إليها معالم المنظومة القيمية والسلوكية من الغرب، والانخراط في المادية والخواء الروحي؟

وفي خضم معاناة أصحاب المشكلة، ربما يقدح الناس في حقيقة تديّن المنتمين إلى هذه الشريحة، ويتندرون عليهم في مجالسهم، أن ابن العالم فلان أو الشيخ فلان لا يصلي، أو مدخن، أو متلبس بأي مظهر آخر من المظاهر التي لا تمثل السلوك الإسلامي، ولا تعبر عن تعاليم الشريعة، فلا يجدون تفسيرا لذلك إلا أنهم لم يحسنوا تربية أبنائهم، أو هم في حقيقة أمرهم ليسوا كما يُظهرون من الصلاح والتدين والتمسك بتعاليم الدين.

الإنسان بطبيعته يتأذى مما يُعير به وينال من صورته، ويزداد الأمر لدى الدعاة، الذين يتحسبون لأن تؤثر هذه المشكلة على استجابة الناس لهم

ولا شك في أن المنتسبين لهذه الشريحة يعتبرون هذه الأمر أعظم مصائبهم، فكل أبٍ يريد أن يرى ولده أفضل الناس وأتقاهم، وإن من صفات عباد الرحمن التي ذكرها الله في القرآن، أنهم يدعون لأبنائهم بأن يقر الله بهم الأعين {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاما}

كما أن الإنسان بطبيعته يتأذى مما يُعير به وينال من صورته، ويزداد الأمر لدى الدعاة، الذين يتحسبون لأن تؤثر هذه المشكلة على استجابة الناس لهم. والحق أن بعض الدعاة والمتدينين بالفعل مسؤولون عن انحراف أبنائهم أو نأيهم عن طريق الدعوة والالتزام بتعاليم الشريعة، فقد يظن الداعية أن خروجه لميدان الدعوة إلى الله، كفيل بأن يجعل بيته على الجادة وأن يرث أبناؤه عنه التزامه وتدينه، فلا يولون أبناءهم وبناتهم القدر الكافي من الاهتمام التربوي، بحجة الانشغال بأمور الدعوة، ولا يدركون أن حصونهم مهددة من داخلها.

وأن أولى الناس بالدعوة والإصلاح هم أهلهم وذويهم، قال الله تعالى «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ». هناك سببٌ آخر للمشكلة، وهو تلك الازدواجية التي يعيش بها بعض المنتسبين إلى التديّن والدعوة، عندما تكون هناك هوة سحيقة بين سلوكياتهم في المنزل وخارجه، فهم أمام الناس يضبطون أفعالهم وأقوالهم وفق الشريعة، ويقيدون جوارحهم حتى لا تنفلت بالأخطاء، أما داخل البيوت، فيتهاونون في ما يجري على ألسنتهم، بل يتساهلون في تطبيق أحكام الشريعة ويتجاوزون بشأنها، ويسيئون إلى أزواجهم وأبنائهم بالقول والفعل ونحو ذلك، فيتربى الأبناء بشكل غير سوي، إضافة إلى أن هذا التناقض الذي يعيش فيه والدهم سيكون له تأثيره في تصوراتهم تجاه التديّن.

بعض هؤلاء الدعاة والمتدينين يركزون على التزام أبنائهم بالهدي الظاهر، من دون الاهتمام بالجوهر والأخلاق والسلوك

وثمة أمر آخر، وهو أن بعض هؤلاء الدعاة والمتدينين يركزون على التزام أبنائهم بالهدي الظاهر، من دون الاهتمام بالجوهر والأخلاق والسلوك، فسرعان ما يتهاوى هذا البنيان الهش لدى الابن، فلا يجد رصيدا من التربية الإيمانية والأخلاقية يقيه الانزلاق مع أبناء جيله. ثم يأتي دور القولبة كأحد الأسباب المهمة في عدم سلوك بعض أبناء المتدينين مسلك آبائهم.

ترى الداعية يسعى لأن يكون ولده نسخة منه، فإن كان ذلك ربما يجدي في فترة الطفولة، التي يسعى فيها الابن للتقليد، فإنه لا يصلح مع الشباب على الإطلاق، فالشاب بمجرد اكتشاف ذاته يسعى للاستقلالية، ويأبى أن يكون نسخة من والده غالبا، لذلك ينبغي على الداعية أن يعطي مساحات لولده يتحرك فيها ابنه بعيدا عن إطاره، طالما أن وجوده فيها لا يتعارض مع تعاليم الشريعة، كما أن عليه أن يسقيه ما يريد بتؤدة وتأنٍّ وحرص على الإقناع. وفي المقابل، لا بد من تصحيح تصوراتنا تجاه هذه القضية، فقد يكون الأب الداعية أو الملتزم على درجة من الصلاح والتقوى، ويبذل قصارى جهده في تربية أبنائه، لكنه لا يجد الثمرة، فهل بالضرورة أنّ هذا يقدح في تديّنه؟

ينبغي أن نعلم أن أمر الاستقامة على تعاليم الدين ليس وراثيا، وأبلغ مثال على ذلك قصة نبي الله نوح مع ولده الذي خالفه في طريق الإيمان، فلنا أن نتخيل أن رسولا من أولي العزم من الرسل قد مات ولده آبقا عن سبيل الإيمان، وأُغرق بالطوفان وهو على عناده وصدوده ، ولم يتأثر بنداءات والده: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}

إن اجتهد الداعية في إصلاح ولده ولم يكتب له التوفيق فإنه من الابتلاء، وعليه أن يستوعب قوانين الهداية الربانية

فإن اجتهد الداعية في إصلاح ولده ولم يكتب له التوفيق فإنه من الابتلاء، وعليه أن يستوعب قوانين الهداية الربانية «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»، وأن التدين ليس أمرا وراثيا.

وهذا أمرٌ ينبغي لمن حوله إدراكه كذلك، فلا ينقمون منه أنْ خالفه ولده في مسلكه، بل ولا يحملنهم هذا على الصدود عن تلقي النصح والإرشاد منه كداعية لمجرد أن ولده يحيد عن التمسك بتعاليم الدين، أو لا يسير على الجادة، فضلا عن تعييره بذلك، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • https://ehssanalfakeeh.com/?p=6626
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

غزة ذبيحتنا جميعا وائل قنديل

غزة.. ذبيحتنا جميعًا

إذا كان الفيتو الأميركي ضدّ مشروع قرار لإنهاء الحرب على غزّة قد فاجأك فثمّة احتمالان: …