إن الإنسان الذي يكون لديه عمل دنيوي مهم لا يشعر بطعم الراحة ولا باطمئنان القلب حتى يفرغ من هذا العمل على الوجه الصحيح الذي تمناه وخطط له وأنفق من أجله وقتًا عزيزًا وجهدًا مُضنيًا ومالًا كثيرًا، فما بالنا إذا كان هذا العمل عملًا عظيمًا من أعظم أعمال الآخرة! والعمل الذي نحن بصدد الحديث عنه هو فريضة الصوم.
وللدلالة على عظمة هذه الفريضة قال عنها الله تعالى: "إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي به" [صحيح مسلم]، وللدلالة على عظمة هذه الفريضة أخبرنا الله تعالى بأن الصائمين من أولئك الذين: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]
وقد أخبرنا النبي ﷺ أن الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة فيقول الصيام "أيْ ربِّ إنِّي منعتُه الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ فشفعْنِي فيهِ" [الجامع الصغير]، كما أخبرنا النبي ﷺ فقال: "الصِّيامُ جُنَّةٌ من النَّارِ كَجُنَّةِ أحدِكمْ من القِتالِ" [صحيح ابن ماجه] (والجُنَّة هي الوقاية والستر)
إن الصحابة والتابعين - رضوان الله عليهم أجمعين - قد أدركوا فضل الصوم خاصة وفضل شهر رمضان المبارك عامة، فشمَّروا عن سواعد الجد قبل قدوم الشهر المبارك؛ ليُروا الله تعالى من أنفسهم خيرا،ً ولكي يخرجوا من رمضان بروح غير الروح، وقلب غير القلب، وجوارح غير الجوارح، ومنزلة أعلى وأسمى من المنزلة التي كانوا عليها قبل رمضان.
علينا أن نصوم صيام مُودِّع، ولن يكون ذلك إلا بتنظيف القلب والقالب وتطهيرهما ليستقبلا نفحات الله وفيوضاته في رمضان
جاء في لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي رحمه الله قال: "كانوا - أي السلف - يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم"
وعن الحسن رضي الله عنه قال: "إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المُحسنون، ويخسر فيه المُبطلون"
وعن علي زين العابدين رضي الله عنه قال: "وأمّا حقّ الصوم، فأن تعلم أنّه حجاب ضربه اللّه على لسانك وسمعك وبصرك، وفرجك وبطنك؛ ليسترك به من النار"
لكي نسير على نهج الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم علينا أن نصوم صيام مُودِّع، ولن يكون ذلك إلا بتنظيف القلب والقالب وتطهيرهما ليستقبلا نفحات الله وفيوضاته في رمضان، ويكون ذلك بما يلي:
أولًا/ المبادرة بالتوبة الصادقة
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} [التحريم: 8]، والتوبة النصوح هي التي لا عودة بعدها إلى الذنب، قال قتادة: النصوح الصادقة الناصحة الخالصة.
من أراد العون من الله تعالى لكي تكون توبته صادقة فليفعل من الطاعات من جنس ما اقترف من آثام، وأن يهجر أماكن السوء ورفقاء السوء وكل ما من شأنه أن ينقض توبته ويُوقعه في المعصية مرة أخرى
فمن تاب توبة صادقة مُستوفية لشروطها، تقبلها الله تعالى منه وتاب عليه وغفر له ما كان منه، وشروط التوبة الصادقة تتلخص في: الإقلاع، والندم، وعدم العودة للذنب، ورد مظالم العباد لأصحابها وطلب عفوهم عن ما كان من أمور معنوية مثل السب والغيبة وغير ذلك.
ومن أراد العون من الله تعالى لكي تكون توبته صادقة فليفعل من الطاعات من جنس ما اقترف من آثام، وأن يهجر أماكن السوء ورفقاء السوء وكل ما من شأنه أن ينقض توبته ويُوقعه في المعصية مرة أخرى.
لنعلم أن مظلة التوبة ليست قاصرة على ما نعرف من المعاصي فحسب، ولكنها تتسع لتشمل كل شرائع الإسلام وحقائق الإيمان وسائر المقامات والأحوال، لذا يفرح الله تعالى بتوبة عبده توبة نصوحا صادقة، ولنعلم كذلك أن المبادرة بالتوبة والأوبة من أعلى المقامات لذلك أثنى الله تعالى على نبيه سليمان عليه السلام بقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]، جاء في تفسير السعدي: "{إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي: رجَّاع إلى اللّه في جميع أحواله، بالتأله والإنابة، والمحبة والذكر والدعاء والتضرع، والاجتهاد في مرضاة اللّه، وتقديمها على كل شيء"
وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} أي: قبل المرض والموت.
إن شروع العبد في التوبة دليل على محبة الله تعالى له، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوبَ الله عليه"، لذا فالتوبة ليست مُتعلقة بالعُصاة فقط بل هي من صفات الأنبياء وصالحي المؤمنين.
قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]، وقال تعالى على لسان نبي الله إبراهيم عليه السلام: {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]، وقال تعالى على لسان نبي الله موسى عليه السلام: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]
ومن المعينات على التوبة الصادقة أن يُصلي العبد صلاة التوبة، جاء في الحديث أن أبا بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ سمِعَ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: "ما مِن عبدٍ يذنبُ ذنبًا، فيُحسنُ الطُّهورَ، ثمَّ يقومُ فيُصلِّي رَكْعتينِ، ثمَّ يستغفِرُ اللَّهَ، إلَّا غفرَ اللَّهُ لَهُ" [صحيح أبي داود]
ومن المعينات أيضًا، أن يتذكر العبد توبة من سبقوه وصدقوا في توبتهم ولنا الأسوة في توبة ماعز والغامدية، وتوبة الرجل الذي قَتَلَ تسعةً وتسعين نَفْسًا، وتوبة المرأة من جهينة التي قال عنها النبي ﷺ: "لقد تابت توبةً لو قُسِّمَتْ بين سبعين من أهلِ المدينةِ لوسعَتْهم" [صحيح الجامع]
من المعينات على التوبة الصادقة أن يُصلي العبد صلاة التوبة
ويُعين على التوبة الصادقة أيضًا، استشعار ثمرات التوبة التي تتلخص في:
1. الفرح بالتوبة والشعور برضا الله ورضوانه.
2. الانكسار أمام الله تعالى طمعًا في عفوه ومغفرته ورجاءً في قبول الطاعة.
3. القدرة على التغلب على مداخل الشيطان فليس من جرِّب كمن سمع.
4. عدم العجب بالعبادة ولا احتقار العصاة، فالتائب أدرى الناس بحقيقة نفسه وأرحم الناس بغيره.
5. التوبة الصادقة تعين العبد على الحياء من الله تعالى وحسن مراقبته في الأمور كلها، فتنضبط الجوارح، وتفيض العين دمعًا، وتنكَّس الرأس خجلًا، والقلب ندمًا وانكسارًا وتواضعًا.
وهذا ما قصده الإمام بن القيم رحمه الله حين قال: "قد يعمل العبد الذنب فيدخُل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخُل بها النار، قالوا: وكيف ذلك، قال: يعمل الذنب فلا يزال نُصْبَ عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى ذَكَر ذنْبَه فيحدُث له انكسارٌ وتوبةٌ واستغفارٌ ونَدَمٌ، فيكون ذلك سبب نجاته، ويعمل الحسنة فلا تزال نُصْبَ عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى، كلما ذكرها أورثَتْه عُجْبًا وكِبْرًا ومِنَّةً، فتكون سَبَبَ هلاكه"
ثانيًا/ المبادرة بكتابة الوصية
إن كتابة الوصية مُستحبة لمن أراد أن يُوصي بشيء، وواجبة على من كانت في رقبته حقوق للعباد؛ كي لا تلتبس الأمور ولا تضيع الحقوق، والوصية تكون بخط يد صاحبها أو أن يحررها أحد الثقات، وأن يُشهد عليها شاهدين من الثقات. والوصية ليس لها صيغة مُحددة شرعًا ولكن تكتب بالصيغة التي تحقق الغرض منها.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يُوصي فيه؛ يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" زاد مسلم: قال ابن عمر: "ما مرَّت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله ﷺ يقول ذلك، إلا وعندي وصيتي" [متفق عليه]
كتابة الوصية مُستحبة لمن أراد أن يُوصي بشيء، وواجبة على من كانت في رقبته حقوق للعباد؛ كي لا تلتبس الأمور ولا تضيع الحقوق
ولكي تكون الوصية كاملة الأركان فلابد من ذكر (المُوصِي - والمُوصَى له - والموصى به - الشهود) على أن تذكر الأمانات والديون وسائر حقوق الآخرين كاملة وبالتفصيل، وإذا أراد المُوصي أن يُوصي بشيء لأحد من غير الورثة الشرعيين فيُراعى ألا تزيد الوصية عن الثلث، وليعلم أنه لا وصية لوارث، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إنَّ اللهَ قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ؛ فلا وصيَّةَ لوارثٍ" [سنن أبي داود]
هناك عدة أمور تبطل الوصية، وهي:
1. موت المُوصَى له.
2. قتل المُوصي من قبل الموصَى له.
3. تلف الشيء الموصَى به.
4. إذا ارتد أحد الطرفين بطلت الوصية.
5. إذا قيَّد المُوصي الوصيَّة بوقت وانتهى.
6. إذا رجع المُوصِي عن الوصية.
7. إذا ردَّ المُوصَى له الوصية.
8. إذا كان المُوصَى به مُحرَّمًا.
وهناك أمور تجعل الوصية مكروهة أو مُحرمة، وهي:
• تكره الوصية إذا كان الورثة فقراء محتاجين لقول النبي ﷺ: "أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" [صحيح البخاري]
• وتكره الوصيِّة لأهل الفِسق إذا كانوا سيستعينوا بها على الفِسق والفجور.
• وتحرَّم الوصيِّة إذا قُصِد منها المضارَّة.
وهناك أبواب ومجالات للوصية، منها: الوصية لـ (اليتامى والأرامل والمحتاجين من الأقارب وغيرهم - تعمير المساجد أو المدارس والمنشآت الخيرية - طباعة ونشر الكتب الشرعية وكتب العلوم النافعة - مساعدة طلاب العلم والمجاهدين - مجالات الصدقة الجارية التي ذكرتها السنة النبوية - الوقف الخيري - سداد الديون عن المدينين والمُعسرين... الخ)
وللحديث بقية في الجزء الثاني من نفس الموضوع إن شاء الله تعالى