إن الصحابة والتابعين - رضوان الله عليهم أجمعين - أدركوا فضل الصوم خاصة وفضل شهر رمضان المبارك عامة، فشمَّروا عن سواعد الجد قبل قدوم الشهر المبارك ليُروا الله تعالى من أنفسهم خيرا،ً ولكي يخرجوا من رمضان بروح غير الروح، وقلب غير القلب، وجوارح غير الجوارح، ومنزلة أعلى وأسمى من المنزلة التي كانوا عليها قبل رمضان.
تحدثنا بفضل الله تعالى في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:
أولًا/ المبادرة بالتوبة الصادقة
ثانيًا/ المبادرة بكتابة الوصية
وسنتحدث بإذن الله تعالى في هذا الجزء عن:
ثالثًا/ المبادرة بسداد الديون
إن حقوق العباد لها حُرمة كبيرة عند الله تعالى، وأكل حقوق الناس بالباطل والمماطلة في سدادها مع القدرة من أكبر الآثام والأوزار ولقد حذرنا الشرع من كل ذلك تحذيرًا شديدًا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ} [النساء: 29]
كفى بآكل أموال الناس بالباطل إثمًا أن نفسه مُعلقة بدينه حتى يُقضى عنه
وللتحذير من الغفلة عن سداد الديون أو المماطلة في سدادها يجب أن ننبه على ما يلي:
• دين المتوفى يُقضي يوم القيامة من حسناته.
• النبي ﷺ رفض الصلاة على جنازة من مات وعليه دين.
• الله تعالى يتلف من بادر بإتلاف أموال الناس.
• من لقي الله تعالى وعليه دين فهو يلقى الله تعالى وهو سارق.
• كفى بآكل أموال الناس بالباطل إثمًا أنه يكون عند الله تعالى من الظالمين "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ" [صحيح البخاري]
• وكفى بآكل أموال الناس بالباطل إثمًا أنه يلقى الله وهو عليه غضبان: "مَن اقتطَعَ مالَ امرِئٍ مُسلِمٍ بغيرِ حَقٍّ لَقيَ اللهَ وهو عليه غَضبانُ" [أخرجه البخاري ومسلم]
• وكفى بآكل أموال الناس بالباطل إثمًا أن نفسه مُعلقة بدينه حتى يُقضى عنه.
وهناك من النصوص الصحيحة دلائل على صحة ما ذُكِر إلا أن المقام لا يتسع لذكرها.
واجبات يجب على المسلم مراعاتها:
• أن يقتدي بالنبي ﷺ في الاستعاذة بالله تعالى من (غلبة الدين) فالدَّين كما قيل عنه أنه "هم بالليل ومَذلة بالنهار"
• أن يحرص المسلم كل الحرص على سداد ديونه في حياته.
• أن يبادر المسلم بتوثيق ديونه في وصية تحسبًا لوفاته قبل أن يُسدِّد ديونه.
• الحرص على عدم التورط في الاستدانة من أجل كماليات أو ضروريات يمكن تأجيلها.
• على الورثة الالتزام بتنفيذ ما جاء في الوصية وسداد سائر الديون قبل توزيع التركة.
من تمام الصلاة عدم انشغال الذهن بأمور الدنيا، وأن يؤدي المسلم الصلاة بشروطها وأركانها كاملة
رابعًا/ الحرص على الخشوع في الصلاة وأن نصلي صلاة مُودِّع
إن استحضار القلب وخشوع الجوارح والتدبر هم روح الصلاة، ومن تمام الصلاة عدم انشغال الذهن بأمور الدنيا، وأن يؤدي المسلم الصلاة بشروطها وأركانها كاملة، قال تعالى في وصف المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2]
إن ما يدل على أن الخاشعين في الصلاة في أعلى المراتب والأحوال هو أن الله تعالى ذكر الخشوع في الصلاة قبل سائر الطاعات الأخرى التي ذكرها تعالى في صدر سورة "المؤمنون"، وقد جاء في تفسير بن كثير: "والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عمَّا عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين"
وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "أصل الخشوع لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له"، وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إنَّ الرَّجلَ لينصرِفُ، وما كُتِبَ لَه إلَّا عُشرُ صلاتِهِ تُسعُها ثُمنُها سُبعُها سُدسُها خُمسُها رُبعُها ثُلثُها، نِصفُها" [صحيح أبي داود]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إنَّ الرجلَ ليُصلِّي ستِّينَ سنةً وما تُقبَلُ له صلاةٌ، لعله يتمُّ الركوعَ، ولا يتمُّ السُّجودَ، ويتمُّ السجودَ ولا يتمُّ الركوعَ" [صحيح الترغيب]
الخشوع ثمرة من ثمرات إخلاص القلب، واستقامة الجوارح، وتعظيم قدر الله تعالى، وتمكن أركان الإيمان من القلب
بعض أسباب تحصيل الخشوع في الصلاة
• ترك المعاصي
• إفراغ القلب من المشاغل الدنيوية
• دقة المراقبة لله تعالى (الله معي، الله ناظري، الله مُطلع عليَّ)
• الاستعداد المُبكِّر للصلاة
• استحضار أهمية الصلاة وأجرها ومكانتها وأنها وصية الله تعالى لكل الأنبياء
• النظر إلى موضع السجود وعدم الالتفات
• اختيار المكان المناسب لتحصيل الخشوع
• ارتداء الثياب المناسب
• عدم الصلاة في حضرة الطعام، ولا حال مدافعة الأخبثين
إن من توفيق الله تعالى للعبد أن يرزقه الخشوع في الصلاة، وهذا التوفيق يُرزَقه من كان في عبادته صادقًا مُخلصًا مُخبتًا مُنيبًا يأتمر بأمر الله تعالى وينتهي بنواهيه، والخشوع ثمرة من ثمرات إخلاص القلب، واستقامة الجوارح، وتعظيم قدر الله تعالى، وتمكن أركان الإيمان من القلب، وعدم الخشوع في الصلاة إنما يكون لاقتراف العبد المعاصي وذلك يؤدي إلى قسوة القلب، وجفاف العين، ويمنع العبد من تحصيل اللذة التي تجعل المصلي خاشعًا مُطمئنًا.
يكفينا أن نعلم أن النبي ﷺ كان يُصلي (ولجوفِهِ أزيزٌ كأزيزِ المِرجَلِ منَ البُكاءِ)، وأن نعلم كذلك أن الإمام عَلِيُّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كان إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه فقيل له مالك يا أمير المؤمنين فيقول: "جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها"
من علامات حُسن الخاتمة أن يوفق الله تعالى العبد أن يعمل عملًا صالحا قبل موته، ويقبض روحه وهو يقدّم هذا العمل الصالح أو عقب الفراغ منه
خامسًا/ الحرص على الأخذ بأسباب حُسن الخاتمة
إن من علامات حُسن الخاتمة أن يوفق الله تعالى العبد أن يعمل عملًا صالحا قبل موته، ويقبض روحه وهو يقدّم هذا العمل الصالح أو عقب الفراغ منه، وإن أخوف ما يخاف منه المؤمن أن يتقلب القلب ويتحوَّل ويزيغ، لذلك فالمؤمن يُكثر من قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا استعملَه، فقيل: كيف يستعملُه يا رسولَ اللهِ؟ قال: يوفِّقُه لعمَلٍ صالحٍ قبلَ الموتِ" [صحيح الترمذي]، وجاء في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "وإنَّما الأعْمالُ بخَواتِيمِها" [صحيح البخاري]، ولما سُئلت أم المؤمنين أم سلمةَ رضي الله عنها عن أكثر دعاءِ النبي ﷺ قالَت: "كانَ أَكْثرُ دعائِهِ: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ" [صحيح الترمذي]
وجاء في الجواب الكافي: "ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح، فلما أصبح قيل له: كل هذا خوفًا من الذنوب؟ فأخذ تِبْنَة من الأرض، وقال: الذنوب أهون من هذا، وإنما أبكي من خوف سوء الخاتمة"، وعلق الإمام ابن قيم الجوزية على هذا الموقف فقال: "وهذا من أعظم الفقه: أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت، فتحُول بينه وبين الخاتمة الحُسنى"
إن الخوف من سوء الخاتمة طاش بقلوب الصادقين، وحَّير أفئدة الصالحين، وطرد النوم من أعين العارفين، عن موسى بن إبراهيم قال: حضرت معروفًا - معروف الكرخي - وعنده رجل يذكر رجلًا وجعل يغتابه، وجعل معروف يقول له، "اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك"
إن أسبَابُ سُوءِ الخاتمةِ إنما يكون بسبب فساد الاعتقاد، والابتداع في العبادة، ومُخالفة الباطن للظاهر، والإصرار على المعاصي، والتعلق بالدنيا، وتسويف التوبة، وعلامات سوء الخاتمة والعياذ بالله تظهر بتبدل الحال قبل الموت، وتظهر عند الغُسل، كما تظهر عند الدفن، نسأل الله تعالى أن يحفظنا من تقلب الأحوال ومن سوء المنقلب وسوء المآل.
ومما يعين على حسن الخاتمة أن نعرف أسباب سوء الخاتمة فنجتنبها، وأن نتعظ بأحوال من ماتوا على سوء الخاتمة والعياذ بالله، وأن نري الله من أنفسنا وقلوبنا وجميع أحوالنا خيرًا ليختم لنا بالعمل الصالح والقبول الحسن.
حال المؤمن يتقلب بين الخوف والرجاء، فالخوف باعث على العمل والرجاء طارد للقنوط من رحمة الله
سادسًا/ حسن الظن بالله والاستبشار بالقبول
إن المؤمن يُوقن أن رب الخير لا يأتي إلا بالخير لذا فهو يُحسن ظنه بربه في أحواله كلها، إن حسن الظن بالله تعالى ليس تواكلًا بل توكلًا، ومن علامات حسن الظن بالله تعالى عدم الغفلة والإكثار من الطاعات والأعمال الصالحات لذلك قيل: "إن حُسن الظن بالله تعالى من حُسن العبادة"
عن جابر بن عبد الله رضي الله قال: "سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ ﷺ، قَبْلَ مَوْتِهِ بثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يقولُ: لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهو يُحْسِنُ الظَّنَّ باللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" [صحيح مسلم]
وحسن الظن بالله يكون عند الشدائد والكُرَب، وعند ضيق العيش، وعند غلبة الدَّين، وعند الدعاء، وعند التوبة، وفي جميع الأحوال. وشاهدنا على ذلك أن الله تعالى {بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}، وأن رحمته سبحانه {وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، وأنه سبحانه "كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهو مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ"
والمؤمن يُقدِّم حسن الظن وقلبه وجل، ويُقدِّم حسن الظن ثقة لا غرورًا، وطمعًا لا تفريطاُ، ويقينًا أنه (لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ) إلا أن يتغمده الله برحمته، إن حال المؤمن يتقلب بين الخوف والرجاء، فالخوف باعث على العمل والرجاء طارد للقنوط من رحمة الله.
أخيرًا...
متى حرص المسلم على التحلي بكل ما سبق من صفات فإنه بذلك يكون قد طهَّر الوعاء لكي يليق باستقبال نفحات الله تعالى في شهر رمضان الطيب المبارك الذي يوجد فيه من النفحات والفيوضات ما لا يوجد في غيره من الشهور.
وإن ما ذكر من نقاط ما هي إلا مُعينات تضع قدم المسلم على مِضمار السِّباق وعليه أن يفتش في نفسه فيزودها بما تحتاجه، فكفى بنفس المسلم واعظًا وزاجرًا، حينها سنكون الجيل الذي يجعل الله تعالى التمكين لدينه على يديه، وسيكون رمضان الأخير للظلم والطغيان في بلاد الإسلام.