تحفل حياتنا بالكثير من القوالب الفكرية، والتنميط، والتي يظن الإنسان صدقها في ظل بعض السطحية التي تكتنف فهمنا لعدد من الأمور المركزية التي يجب على كل إنسان الإلمام بها، مثل لماذا خلقنا اللهُ تعالى، ولماذا نحن على هذه الأرض، وكيف نمضي ويمضي فيها سعيُنا.
وفي الحقيقة فإن القرآن الكريم يخبرنا بأن سعي الإنسان في هذه الحياة، ومصيره في الدنيا والآخرة، قضية أعمق بكثير مما يظن البعض وفق نظرة حرية الاختيار التي منحها اللهُ سبحانه وتعالى، وبناء عليها يُحاسَب الإنسان.
وأول ما يجب قوله في هذا، إن اختراق الإنسان في هذه الدنيا، وقضية الحساب فيها، وفي الآخرة، تتعلق بقضية مركزية مهمة - يغفل عنها الناس - تسبق العمل، وهي النِّيَّة وما عقَّد الإنسان عليه العزم في قوله وعمله ، وذلك بالرغم من أن هناك حديثًا نبويًّا شريفًا يقول فيه الرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إنما الأعمال بالنِّيَّات وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى" [أخرجه البخاري ومسلم في صحيحَيْهما]
ويقول بعض علماء الأصول والفقه إن هذا الحديث وأحاديث أخرى تأخذ ذات المعنى، ميزانٌ لما ميَّزوا فيه أعمال الإنسان بين أعمال ظاهرة وأعمال أخرى باطنة.
الحرية التي يرى البعض الإنسان عليها، ليست مطلقة، ولا نقصد بذلك قضية الضوابط التي تضعها الشرائع والمجتمعات على سلوك الإنسان لكي لا تتحول الحرية الفردية إلى فوضى، وإلى جورٍ على حقوق وحريات الآخرين
فقد نرى من أحدهم جَميلَ صنيعٍ، بينما هو في دواخله لا يقصد به ما يظهِرُه، أو ما يظنه الناس فيه أو منه.
وهذه الإشارة هي نقطة انطلاق لما نودُّ أن نقوله في نقطة بها بعض الغَبَش، وبحاجة إلى توضيح فيما يتعلق بالسياقات الحقيقية التي نمضي فيها وبها في هذه الدنيا.
فالحرية التي يرى البعض الإنسان عليها، ليست مطلقة، ولا نقصد بذلك قضية الضوابط التي تضعها الشرائع والمجتمعات على سلوك الإنسان لكي لا تتحول الحرية الفردية إلى فوضى، وإلى جورٍ على حقوق وحريات الآخرين.
وإنما نقصد هنا، أن حرية القرار التي منحها اللهُ تعالى للإنسان، لا تعني أنه يسير في هذه الحياة الدنيا بمعزلٍ كاملٍ عن مُراداتٍ معينة لله تعالى فيها، شاءها سبحانه لضمان تحقيق سُننه ومشيئته فيها ، حتى يشاء أن تنتهي الدنيا وتفنى، سواء فيما يتعلق بالسلوك الفردي، أو بالإطار الجَمْعي الذي يعيش فيه الإنسان، وهو ما يرتبط في جانب منه بقضية عقدية مهمة، وهي الإيمان بالقضاء والقَدَر.
فالإنسان الذي يحصِّلُ المال، أو يحصِّلُ العلم... إلخ، قد يظنُّ أنه قد نجح في ذلك على جهده، وعلى عمله، بينما وفق القرآن الكريم فإن الأمر ليس كذلك.
فالله تعالى – وفق المشيئة – لم يترك الإنسان لحريته هذه التي قدَّرها له على إطلاقها، وإنما تمضي صيرورات حياتنا في إطار أو سياق أننا نمضي في هذه الحياة الدنيا في طريق اختطَّته لنا المشيئة الإلهية، حافل بالمواقف والأمور التي تُعرَض علينا، وكل ما نفعله نحن، هو أن نتعامل مع كل موقف نمضي فيه بالصورة التي نراها، ثم يحاسبنا اللهُ تعالى على ما فعلناه واقترفناه.
وهنا يظهر عنصر الحرية في الاختيار، فإمَّا عَمَلٌ أو اختيارٌ صالح، أو غير صالح، وهو ما يُجازي الإنسان عليه، لكننا لا نمضي في طريق صنعناه نحن بالكامل، أو باختياراتنا نحن.
تمضي صيرورات حياتنا في إطار أو سياق أننا نمضي في هذه الحياة الدنيا في طريق اختطَّته لنا المشيئة الإلهية، حافل بالمواقف والأمور التي تُعرَض علينا، وكل ما نفعله نحن، هو أن نتعامل مع كل موقف نمضي فيه بالصورة التي نراها، ثم يحاسبنا اللهُ تعالى على ما فعلناه واقترفناه
وفي القرآن الكريم ما يقول ذلك بوضوح، ومنه قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" [يُوسُف: 68]
ففي هذه الآية يشير اللهُ تعالى بوضوح إلى أن علم سيدنا يعقوب - عليه السلام - والذي تحرَّك بمقتضاه في هذا الموقف، هو ليس من لدُن يعقوب، وإنما هو تصرُّفٌ من يعقوب فيما مكَّنه اللهُ تعالى فيه.. "وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ"، ثم يردِف الخالق - عزَّ وجلَّ - قوله هذا بالتأكيد على أن هذا المغزى الشديد الأهمية، وترتبط به مصائرنا في الدنيا والآخرة، غائبٌ عن الكثير من الناس. "وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ".
و تمكين الإنسان في الأرض، هو ليس بحولٍ منه ولا قوة، وإنما هو أمر يتمُّ وفق المشيئة، وذلك اختبارًا وابتلاءً للإنسان لينظر في عمله ، وهو مُدرَكٌ كان عند أنبياء الله تعالى، باعتبار أنهم كانوا الأعلم من بين البشر بربِّهم سبحانه، ومن ذلك قوله تعالى على لسان نبيه سليمان - عليه السلام: {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النَّمل: 40]
وقول سليمان هذا جاء عندما رأى أمامه عرش ملِكة سَبَأ ماثلًا أمامه، بعد أن أحضره له أحد جنوده الذين سخَّرَهم اللهُ تعالى له، فهو هنا (سليمان عليه السلام) عندما قال قولته هذه، إنما قالها من يقين نابع من هذا الفهم – سيطرته على هؤلاء الجنود وما يؤدونه له من أعمال تبدو لنا خارقة للمألوف – إنما كلها أمور هي منحة من الله تعالى، ولم يؤتها سليمان على علمٍ أو حَوْل منه.
والآية الكريمة السابق الإشارة إليها، تحفل بأكثر من معنىً في ذلك؛ فذلك المخلوق الذي أحضر العرش لسليمان أيضًا – يقول المفسرون إنه من مَرَدَةِ الجان وأقويائهم – لم يأتِ بذلك العرش من اليمن إلى القدس، حيث كان نبي الله سليمان - عليه السلام - موجودًا بقوته، وإنما فعل ذلك بعلمٍ علمه اللهُ تعالى له. يقول تعالى في الآية الكريمة: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النَّمل: 40]
وفي سُورَة الحَج، يقول تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41]
ما يستعمله الإنسان من مخلوقات الله - عزَّ وجلَّ - إنما يحصل وفق قانون التسخير، وليس لقدرة ذاتية من الإنسان، فكذلك أعضاء الإنسان - والتي يظنُّ أنها مُلْكٌ له، وله كامل التحكُّم فيها - وقتما تنتهي مرادات اللهِ تعالى من تسخيرها للإنسان سوف تعود إلى مالكها الأصلي
فهنا يشير المولى - عزَّ وجلَّ - إلى ذلك المعنى عندما يرتِّب مسار تمكين لقومٍ أخيار اختاروا سبيل الله تعالى عندما مكَّنَهم في هذه الأرض، الذين نحن في الأصل مُستخلَفين فيها.
وكذلك ما يستعمله الإنسان من مخلوقات الله - عزَّ وجلَّ - إنما يحصل وفق قانون التسخير، وليس لقدرة ذاتية من الإنسان، فكذلك أعضاء الإنسان - والتي يظنُّ أنها مُلْكٌ له، وله كامل التحكُّم فيها - وقتما تنتهي مرادات اللهِ تعالى من تسخيرها للإنسان سوف تعود إلى مالكها الأصلي. يقول الله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النُّور: 24]، ويقول تعالى أيضًا: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فُصِّلَتْ: 21]
وآيات الابتلاء والفِتَن في القرآن الكريم، تقول هذا المعنى بوضوح: "إننا نتحرَّك في ملكوت الله تعالى بسياق معيَّن، جزءٌ كبيرٌ منه لا حيلة لنا فيه، ومُقدَّر لنا وعلينا، وإنما ما قد يكون لنا حيلة فيه، هو كيف سوف نختار، وهو ما يحقق سُنَّة الله العدل في الحساب".
وهذه الاختيارات أيضًا، قد يقودنا اللهُ تعالى فيها إلى ما لا نجاة منه، وفق ما نقوم به من قبل أن نعمل العمل، ويعود بنا ذلك إلى المقصد الأول لهذا الموضِع من الحديث (وهو النِّيَّة، وما وَقَر في ضمير ونفس الإنسان من طبائع، وما يسعى إليه) فإنْ كان صالحًا، هداه اللهُ تعالى إلى سواء السبيل، وإنْ كان باغيًا للشَّرِّ، هداه اللهُ سبحانه إلى مهاوي جهنَّم وبئس المصير والعياذ بالله.
يقول تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]