أيًّا كانت مآلات ما يجري في الكيان الصهيوني الآن من احتجاجات في الشارع، وأزمات سياسية داخلية وصلت إلى وضعه على شفا حرب أهلية كما قال بعض أعضاء حزب "الليكود" الذي يقود الائتلاف الحاكم في الكيان الصهيوني؛ فسوف تبقى له دلالاته العميقة حول طبيعة هذا الكيان الغاصِب اللقيط.
وكذلك بعد استجابة نتنياهو جزئيًّا لضغوط الشارع وتلك التي واجهته داخل حزبه وحكومته، ومن الولايات المتحدة نفسها، وإعلانه تأجيل خطة تعديل النظام القضائي هناك، والتي تتضمن مجموعة من القوانين التي أقِرَّت بالفعل أو مشروعات قوانين تعمل عليها "الكنيست" لتقييد صلاحيات المحكمة العليا، فإنه تبقى حقيقة أن الصورة الذهنية التي عِمَلت الدوائر الصهيونية العالمية على الترويج لها للكيان الصهيوني على أنه "واحة للتقدم والديمقراطية وحقوق الإنسان وسط بحر من الوحشية والتخلف" إنما هي مجرَّد ادعاءات كاذبة.
تبطُل حُجَج المبررين والمدافعين من بعض الصهاينة العرب عن أن نتنياهو وزمرته طارئون على "الديمقراطية الإسرائيلية"، أو أنه لا يمثل المجتمع الصهيوني، أو ما شابَه؛ ففي النهاية، هو أتى إلى منصبه هذا بقرار من غالبية انتخابية شعبية وحزبية صهيونية
وأول ما ينبغي لَفْت الانتباه إليه في هذا الصدد، وضروري التأكيد عليه، هو أن نتنياهو رئيس لحكومة أغلبية جاءت بانتخابات عامة لا تزوير فيها، وأنه الأطول في تاريخ الكيان الصهيوني في منصبه هذا، بأكثر أيضًا من ديفيد بن جوريون، الذي يُعد الأب الروحي للكيان الصهيوني.
وبالتالي.. تبطُل حُجَج المبررين والمدافعين من بعض الصهاينة العرب عن أن نتنياهو وزمرته طارئون على "الديمقراطية الإسرائيلية"، أو أنه لا يمثل المجتمع الصهيوني، أو ما شابَه؛ ففي النهاية، هو أتى إلى منصبه هذا بقرار من غالبية انتخابية شعبية وحزبية صهيونية.
وفي الأصل فإن سبب الأزمة الراهنة في الكيان الصهيوني، ليس لأن هناك خلافًا على قضية وطنية أو سياسة ما في الإطار العام أخذها نتنياهو وأنصاره في الائتلاف اليميني الحاكم في الكيان الصهيوني، اختلف فيها معه الكثير من أركان حزبه وحكومته، وكذلك المعارضة والشارع، مثل إعلان حرب خاسرة بسبب تقديرات خاطئة أو ما شابه، وإنما الأمر يتعلق بحماية نتنياهو نفسه من الملاحقة الجنائية أمام القضاء الصهيوني في قضايا فساد.
كذلك يتعلق الأمر بمصالح حزبية ضيقة تخص نتنياهو و"الليكود" وائتلافه الحاكم، فمن بين حزمة القوانين التي أثارت غضب الشارع الصهيوني وأطراف أخرى لها سطوتها في الكيان الصهيوني مثل الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية "الهستدروت"، مشروع قانون يُعرَف بقانون "أدرعي 2" الذي أقره "الكنيست" بالقراءتَيْن الثانية والثالثة في السادس والعشرين من مارس، يستهدف الالتفاف على قرار للمحكمة العليا في الكيان الصهيوني بمنع تولي زعيم حزب "شاس" آرييه أدرعي، والذي كان وزيرًا للداخلية في حكومة سابقة لنتنياهو، لأي منصب وزاري بسبب إدانات أدرعي المتكررة بمخالفات جنائية.
الأزمة الحالية في الكيان الصهيوني هي نتيجة صراع سياسي أدخله فيه نتنياهو بسبب سعيه إلى حماية نفسه وحماية حلفائه المتمهين بالفساد، بل وبتهمٍ جنائية
النقطة الأخرى المهمة التي أظهرتها الأزمة الحالية في الكيان الصهيوني، أن المجتمع والدولة هناك منقسمان بشدة، وأن هذا الانقسام أخذ منحنيَيْن خطيرَيْن: الأول/ أنه ينذر بصدامات داخلية واسعة لدرجة أن بعض أعضاء "الليكود" – حزب نتنياهو – اتهموه بأنه يقود البلاد إلى شفا حرب أهلية.
أما الملمح الثاني/ فهو أن الانقسامات وصلت إلى المؤسسة الأهم في الكيان، والتي تضمن أمنه القومي وبقاءه، وهي مؤسسة الجيش، فالذي دَفَع نتنياهو إلى إقالة وزير الدفاع الصهيوني يوآف جالانت من منصبه هو تصريحاته التي حذر فيها من أن خطة نتنياهو لتعديل النظام القضائي الصهيوني أدت إلى انقسام كبير هناك وصل إلى داخل الجيش الصهيوني.
وبالتالي.. فإن الأزمة الكبيرة الحالية في الكيان الصهيوني تظهر حجم الهشاشة الداخلية لهذا الكيان الغاصب .
ومن المهم أن نضع في الإطار الشامل للصورة بعض الأمور المهمة من على الجانب الآخر، الجانب الفلسطيني، لكي نتأكد تمامًا أن هؤلاء القوم – الصهاينة – يصدق فيهم قول الله تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]
فالهشاشة والضعف اللذان ظهرت عليهما دولة الاحتلال ومؤسسة الجيش في السنوات الماضية التي تصاعدت فيها وتيرة المقاومة الشعبية، وما أظهرته حوادث مثل مخيم جنين وحوارة والشَّيْخ جرَّاح والبوابات الإلكترونية، وحجم الإنجاز الكبير نظير ضعف العدد والإمكانات الذي تقوم به مجموعات مثل "كتيبة جنين" و"عرين الأسود" كلها تقول بأنه ليس من الصعب هزيمتهم، وإنهم ليسوا بهذه المناعة التي يظهرونها مُزوِّرين الواقع، في إعلامهم.
الهشاشة والضعف اللذان ظهرت عليهما دولة الاحتلال ومؤسسة الجيش في السنوات الماضية التي تصاعدت فيها وتيرة المقاومة الشعبية تقول بأنه ليس من الصعب هزيمتهم، وإنهم ليسوا بهذه المناعة التي يظهرونها مُزوِّرين الواقع، في إعلامهم
ومن ثَمَّ فإن أوَّل ما ينبغي فِعله في هذه المرحلة، هو استغلال الأزمات الداخلية الآخذة في التنامي داخل الكيان الصهيوني، والعمل على نشرها وفق هذا المعنى (معنى الهشاشة والضعف) بخلاف الصورة الظاهرة لـ"إسرائيل القوية"، وأن يحصل ذلك على أوسع نطاق يشمل مختلف طوائف وأبناء الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والمسلمة.
ثم البناء على ذلك من أجل تعضيد جهود المقاومة الشعبية وتصعيدها، فالعقبة الكؤود الأسوأ التي تعترض تفعيل المقاومة الشعبية بالصورة المطلوبة هي عبارات المعوِّقين من الناس، والذين يشككون في جدوى مثل هذه العمليات التي بِتْنَا نراها في الضفة الغربية كل يوم تقريبًا، وجعلت قوات الأمن وجيش الاحتلال في حالة تعبئة وحشد دائمَيْن.
وبالتالي.. فإن مفتاح تصعيد هذه العمليات، وضم المزيد من الشباب الفلسطيني إلى هذا الحِراك، وإشعال فتيل الحماسة للعمل ضد الاحتلال الصهيوني في كل مكان من أرض فلسطين، هو إبراز تهافت هذه الكيان، وأنه على أكبر قدر من الهشاشة والانقسام، وأنه من الممكن هزيمته، فقط متى توافر الإيمان بالله تعالى، وتوافرت الإرادة.