احذروا السهام الطائشة (1-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » احذروا السهام الطائشة (1-2)
احذروا السهام الطائشة (1-2)

هل تتذكر حرب الأسلحة الفاسدة، وهل سمعت عن المثل العربي القائل " ما هكذا تُورَدُ يا سَعْدُ الإبْل!"، وهل تعرف معنى المثل العامي القائل " بدل ما يكحَّلها عماها"، وهل وصلتك قصة "الدبة التي قتلت صاحبها"، وهل سمعت عن "معركة شبش" بين الجيش العثماني والجيش النمساوي حين قضت كتائب الجيش النمساوي على بعضها البعض بما يسمونها "نيران صديقة"، إن هذه كلها نماذج لسهام طائشة تكبِّد من يُطلقها خسائر مادية ومعنوية فادحة، وتسبب توجسًا وخِيفة، وقد تسبب تقهقرًا وانسحابًا وبالتالي عواقب وخيمة وهزيمة ساحقة مُنكرة.

إننا عندما نطلق سهامنا في الاتجاه الخاطئ يترتب على ذلك قطيعة رحم، أو هجر أحبة، أو فقدان صديق، أو شماتة عدو، أو تنكُّب طريق، فنصل إلى واقع مُؤسف ونتائج مُزرية، وعواقب وخيمة.

ولكي لا تتأزم الأمور وتصل بنا إلى هذا المُنحدر المُؤسف علينا أن نراعي أمورًا مهمة، أوجزها فيما يلي:

أولًا/ قيِّموا عقول الناس وتصرفاتهم من منظور الشرع

اجعلوا المعيار الذي تقيِّمون به الناس هو معيار الشرع، فالشرع هو العباءة الواسعة التي لا يخرج من تحتها إلا شقي، والمظلة العريضة التي لا يشذ عنها إلا هالك، والحكم الذي يرضى به الجميع، لا داعي أن تصنفوا الناس في إطار تصنيفات ضيقة من مُنطلق حزبي أو فئوي فتخطئوا التقدير، وتُخسِروا الميزان، وتقعوا فيما يقع فيه رجال السياسة حين يقولون: "من ليس معنا فهو ضدنا"

من الناس من لا يستظل بمظلة الدين، ولا يؤمن بما تدعون إليه ولكنه يحمل من الأخلاقيات الفاضلة والمبادئ السامية ما لا ينافسهم فيها غيرهم

واعلموا أن من الناس من لا يستظل بمظلة الدين، ولا يؤمن بما تدعون إليه ولكنه يحمل من الأخلاقيات الفاضلة والمبادئ السامية ما لا ينافسهم فيها غيرهم.

وإن شئت فارجع إلى:

• ما فعله المُطعم بن عدي عندما أجار النبي ﷺ بعد عودته من الطائف، وكان عدي مُشركًا ومات على الشرك.

• وما فعله زهير بن أبي أمية حين ذهب إلى صناديد قريش لكي يفك الحصار الذي ضُرب على المسلمين في شِعب أبي طالب، فقال: "يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يُبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة"

• وما فعله عبد الله بن أريقط - وكان مُشركًا - حين ضحَّى بمائة ناقة رصدتها قريش لمن يدلهم على النبي ﷺ وصاحبه، وفاءً لهما وإنفاذًا لعهده معهما.

• وما فعلته هند بنت عُتبة - وكانت لا تزال على الشرك - حين ذهبت للسيدة زينب بنت رسول الله ﷺ تعرض عليها المساعدة لكي تلحق بأبيها إلى المدينة.

• وإن شئت فاقرأ مقولة الإمام البنا - رحمه الله - حين قال: "كم فينا وليس مِنِّا، وكم مِنَّا وليس فينا"

لا تنظروا للناس نظرة استعلاء بما حباكم الله تعالى به من علم وفهم ووعي، ولا تنظروا إليهم نظرة تكبر وازدراء

ثانيًا/ إياكم والتعامل مع الآخرين من برج عاجي فيلفظونكم لفظ النواة

لا تنظروا للناس نظرة استعلاء بما حباكم الله تعالى به من علم وفهم ووعي، ولا تنظروا إليهم نظرة تكبر وازدراء وتذكروا قول الله تعالى: {كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] وتذكروا قول النبي ﷺ: "رُبَّ أشعَثَ ذي طِمْرَيْنِ لو أقسَم على اللهِ لَأبَرَّه" [صحيح ابن حبان] (طِمْرينِ: الطِّمرُ: هو الثَّوبُ الخَلِقُ البَالي)

ولنا الأسوة الحسنة في النبي ﷺ حين دخل أعرابي مجلسه فقال: " أيُّكُمْ مُحَمَّد؟".. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "بيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ مع النبيِّ ﷺ في المَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ علَى جَمَلٍ، فأناخَهُ في المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قالَ لهمْ: أيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ والنبيُّ ﷺ مُتَّكِئٌ بيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ، فَقُلْنا: هذا الرَّجُلُ الأبْيَضُ المُتَّكِئُ" [صحيح البخاري]

الرجل الذي ذكر في الحديث هو "ضمام بن ثعلبة" رضي الله عنه - وكان سيد قومه بني سعد بن بكر- جاء لمقابلة النبي ﷺ؛ ليسأله عن أركان الإسلام؛ ليكون مُعلمًا لقومه بعد رجوعه إليهم.

ثالثًا/ اعلموا أن الحُكم المُطلق على الآخرين ظلم مُطلق

لا تجعلوا حُكمكم على الآخرين حُكمًا مُطلقًا، ولا تأخذوا الناس في أوقات المحن ولا في أوقات الاستضعاف فالطاقات متفاوتة، واعلموا أن "قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِن أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ" [صحيح مسلم]

قد يكون هناك من يأخذ بالعزيمة وبجواره من يأخذ بالرخصة وبجوارهما من هو مُكره وقلبه مطمئن بالإيمان، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "لَيْسَ الرَّجُلُ بِأَمِينٍ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ أَجَعْتَهُ، أَوْ أَخَفْتَهُ أَوْ حَبَسْتَهُ" وإن شئت فارجع إلى ما حدث من الإمام أحمد بن حنبل ورفيق دربه في محنة خلق القرآن يحيى بن معين، والنماذج في هذا الجانب كثيرة.

من ينظرون إلى أنفسهم وإلى غيرهم بالصورة المثالية التي لا تقبل الخطأ مهما كان بسيطًا أولئك هم الذين يعمدون إلى الذات فيجلدونها جلدًا لا هوادة فيه

رابعًا/ إياكم وجلد الذات

بداية نؤكد على أن جلد الذات من الأمور النفسية التي تصيب ذوي الحماس الزائد الذين يعمدون إلى تحميل أنفسهم وغيرهم فوق الطاقة، مع تجاهل الطبيعة البشرية وتقلبها بين النشاط والفتور، والحماس والخمول، وحاجتها للاسترخاء بين الفينة والأخرى.

إن من ينظرون إلى أنفسهم وإلى غيرهم بالصورة المثالية التي لا تقبل الخطأ مهما كان بسيطًا أولئك هم الذين يعمدون إلى الذات فيجلدونها جلدًا لا هوادة فيه، مما يُصعِّب عليهم بعد ذلك قيادتها فتراها تخلد إلى التقوقع والانكماش والعزلة واللامبالاة، وتصاب بالاكتئاب فلا هي وصلت للكمال الذي تنشده، ولا صححت الأخطاء البسيطة التي وقعت فيها ولا حافظت على الرصيد الذي قدمته من قبل.

قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]

إن من يصاب بجلد الذات يكون عرضة لانقلاب الموازين، فتطرأ عليه السلبية بعد الإيجابية، والفتور بعد الهمة والنشاط، والاستهتار واللامبالاة بعد الجدية والعطاء، ولكي لا يصل المرء منا إلى هذه المرحلة أوصانا النبي ﷺ فقال: "إنَّ هذا الدينَ يسرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبهُ، فسدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا ويسِّروا واستعينُوا بالغَدوةِ والروحةِ وشيءٍ من الدُّلجةِ" [صحيح النسائي]

وهذا الصحابي الجليل حَنْظَلةَ الأُسَيْديَّ - رضي الله عنه - قد ذهب إلى النبي ﷺ شاكيًا حاله فقال: "نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: وَما ذَاكَ؟ قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِكَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، إنْ لَوْ تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي وفي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" [صحيح مسلم] (عافَسَ الأَزواجَ والأَولادَ أي: لاعَبهُم وانْشغَلَ بِهم، والضَّيعاتِ: هِي مَعاشُ الرَّجلِ مِن مالٍ أو حِرفَةٍ أو صناعةٍ)

النفس ليست آلة صماء نحركها كيف نشاء لذلك يجب علينا التلطف بها لكي تسهل قيادتها

من هنا نعلم أن النفس ليست آلة صماء نحركها كيف نشاء لذلك يجب علينا التلطف بها لكي تسهل قيادتها، ويعينك على ذلك:

- أن تتفرغ بعض الوقت تسترخي فيه وتستجم وتسعد بأهلك ويسعدوا بك وتعلمهم وتتفقد أحوالهم، واعلم أن ذلك ليس وقتًا هدرًا ولكنه وقت للتخلص من كدر الحياة والتزود لجولة قادمة.

- اعلم أن كل ما على المرء هو الأخذ بأسباب الوصول فلا تجلد نفسك ولا ترهق تفكيرك في تحصيل النتائج فإن ذلك بيد الله تعالى ومشيئته.

- اعلم أن تعب الأرواح أصعب من تعب الأبدان، فلا تقحم روحك فيما يُرهقها فتمل وتبحث عن الراحة والدعة وتلجأ إلى التسويف والهروب من الواقع.

- تدرج في إنجاز المهمات حسب أهميتها ومدى الحاجة إليها، ورتب مهماتك على النحو التالي: (مهم وعاجل- مهم وغير عاجل- غير مهم وعاجل- غير مهم وغير عاجل)

- ققسم المهمة الصعبة إلى مجموعة مهمات أصغر لكي يسهل التعامل معها ويمكنك الاستعانة في ذلك بذوي الخبرة.

- لا تجعل جلد الذات هروبًا من الفشل ولا تحكم على الجولات القادمة بالفشل لمجرد أنك فشلت في الجولة السابقة، وإلا ما قامت للمسلمين قائمة بعد غزوة أحد!

- عود نفسك على أن تأخذ هدنة قصيرة من العمل تتيح فيها للعقل الباطن ترتيب الأفكار، وتتيح للنفس أن تنطلق انطلاقة جديدة أكثر حماسًا، ولا تنس قبل كل ذلك أن تستعين بالله تعالى وتسأله التوفيق.

جلد الذات يسبب المزيد من الألم النفسي والجفاء الروحي؛ لأن الإنسان يعمد إلى صب جام غضبه على نفسه وعلى كل المحيطين به وهو على اقتناع تام أنه يفعل عين الصواب، فتراه لا يألف ولا يؤلف

إن الفرق شاسع بين لوم النفس ومُحاسَبتها وبين جلد الذات؛ فمراجعة النفس الهدف منها معرفة موطن الداء وطُرق علاجه، وهذا أمر ضروري لكل صادقٍ مع نفسه، وهذا يعد من العوامل المهمة التي تساعد على استقرار ورُقِي حياة الإنسان وتطورها، ويدخل في باب لوم النفس ومحاسبتها التوبة الصادقة من أجل بناء ذات جديدة قادرة على التخلي عن كل رذيلة والتحلي بكل فضيلة، والإعراض عن طريق الشيطان والولوج في طريق الرحمن، بينما جلد الذات هو التبرم والتشكي والسخط، والاستمرار في تشخيص الداء دون التفكير الجدي في البحث عن الدواء.

إن جلد الذات لا يسبب إلا المزيد من الألم النفسي والجفاء الروحي؛ لأن الإنسان يعمد إلى صب جام غضبه على نفسه وعلى كل المحيطين به وهو على اقتناع تام أنه يفعل عين الصواب، فتراه لا يألف ولا يؤلف.

إن هاجس جلد الذات يجعل المرء يلجأ إلى أن يحرم نفسه من المباحات ويشق عليها حتى يهلكها، ومن يتأمل سماحة الإسلام يجد أنه لا تعارض بين تلبية مطالب الجسد في إطار الشرع وبين تكامُل الرُّوح ورقي الأخلاق.

جاء في صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"

هنا وجب أن نقول إنَّ من يعمدون إلى جلد ذواتهم مثلهم كمثل من يجد جثة على قارعة الطريق فيعمد إلى التمثيل بها دون أن يهديه رشده إلى سترها ومواراتها.

وللحديث بقية في الجزء الثاني من نفس الموضوع إن شاء الله تعالى

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …