تحدثنا بفضل الله تعالى في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:
أولًا/ قيِّموا عقول الناس وتصرفاتهم من منظور الشرع
ثانيًا/ إياكم والتعامل مع الآخرين من برج عاجي فيلفظونكم لفظ النواة
ثالثًا/ اعلموا أن الحكم المُطلق على الآخرين ظلم مُطلق
رابعًا/ إياكم وجلد الذات
وسنتحدث في هذا الجزء إن شاء الله تعالى عن:
خامسًا/ لا تلقوا العيب على غيركم قبل أن تفتشوا في أنفسكم
إن معارضة الناس لكم وانفضاضهم عمَّا تدعونهم إليه لا يعني أنهم قد خرجوا من الإسلام، فقد يكون العيب في أسلوب اجتهادكم في التعامل معهم، أو في أسلوب تطبيقكم لما تدعونهم إليه، أو فيما وصلهم عنكم! والمطلوب فقط أن تراجعوا أسلوب اجتهادكم، وأسلوب تعاملكم، وأن تزيلوا الشبهات التي تثار حولكم وحول ما تدعون الناس إليه كي تنقشع الغشاوة عن كل الأطراف.
والمطلوب كذلك أن نعلم جميعًا أنه لا سلامة من ألسنة الخلق، وهذا يُوجب علينا أن نتودد لمن ندعوهم ونقول لهم "يا أهلينا اتقوا الله فينا.. ولا تقولوا عنا ما ليس فينا.. اسمعوا منا ولا تسمعوا عنا.. فإن من عاش بصفاء النية نجَّاه الله من كل بليَّة.. ومن عاش بالمكر مات بالفقر"
سادسًا/ أقيلوا العثرات وأنزلوا الناس منازلهم
أنزلوا الناس منازلهم واعرفوا لهم سابقتهم وفضلهم وقدرهم، ولا تهيلوا عليهم التراب لوقوعهم في زلَّة أو هفوة أو هنَّة، عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن النبي ﷺ قال: "أقيلوا ذَوي الهيئاتِ عثَراتِهم إلا الحدودَ" [أخرجه أحمد والنسائي]
إنه بالرغم مما حدث من حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - يوم فتح مكة إلا أن النبي ﷺ قال: "إنَّه شَهِدَ بَدْرًا وما يُدْرِيكَ؟ لَعَلَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ اطَّلَعَ علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" [أخرجه البخاري]، لا تكونوا عونًا للشيطان على إخوانكم فتجبرونهم على الخطأ ثم تبرروا لأنفسكم الطعن فيهم وجلد ظهورهم، قال الشاعر عبد الغني النابلسي:
من ذا الذي ما ساء قط :: ومن له الحُسنى فقط
وقال الشاعر علي بن الجهم:
وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها :: كَفى المَرءَ نُبلًا أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ
مما سبق نعلم أن الخطأ والتقصير صفة ملازمة لجميع البشر، إلا من عصمهم الله - عز وجل - من أنبيائه ورسله، والتماس الأعذار للصالحين وأصحاب سابقات الخير من شيم الكرام.
لينوا في أيدي إخوانكم، وتغافلوا عمَّا يمكن التغافل عنه، والتمسوا الأعذار لبعضكم البعض
سابعًا/ لينوا في أيدي إخوانكم
لينوا في أيدي إخوانكم، وتغافلوا عمَّا يمكن التغافل عنه، والتمسوا الأعذار لبعضكم البعض، يقول تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، وفوِّتوا الفرصة على عدوكم أن يحرِّش بينكم أو أن يُوقع بينكم العداوة والبغضاء فيجركم لمعارك جانبية يخسر فيها الجميع ويشغلكم بأنفسكم فيكون بأسكم بينكم شديد وتكونوا بذلك قد كفيتموه ما أراد.
على العاملين في حقل الدعوة - مع اختلاف مذاهبهم ومشاربهم - أن يضعوا هذا القاعدة الذهبية نصب أعينهم: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه" كما قال العلامة محمد رشيد رضا - رحمه الله - وقصد بها أن يتعاون أهل القبلة جميعًا ضد أعداء الإسلام ولا يتفرقوا: "فإنَّما يأْكلُ الذِّئبُ القاصيةَ" [صحيح النسائي]
ويكفينا هنا أن نقول إن أعداء الإسلام تفرَّق شملهم إلا علينا حتى صرنا كالفريسة للذئاب، وهذا يُحتم على العاملين للإسلام أن يُنحُّوا اختلافاتهم وخلافاتهم الجزئية جانبًا وأن يتحدوا سويًا، وألا يتركوا أحدًا بداخله مثقال ذرة من خير إلا تعاونوا معه لصالح القضايا المصيرية والجوهرية، ومن أجل تحقيق الأهداف الكلية للإسلام.
التعصب الأعمى للأشخاص وتصنيفهم أيدلوجيًا والحكم عليهم حكمًا لا إنصاف فيه ولا موضوعية إنما هو من عصبية الجاهلية
ثامنًا/ إياكم والتعصب فإنه من أخلاق الجاهلية
إياكم والتعصب للأشخاص فإن "الحق لا يُعرف بالرجال، وإنما يُعرف الرجال بالحق" كما قال الإمام علي رضي الله عنه.
على المسلم أن يبحث عن الحق مُجردًا ويدور في فلكه، فالتعصب يصد كثيرين عن الجهود التي يبذلها المخلصون، فهذا لا يقرأ لعالم ثقة لكونه محسوبًا على طائفة معينة، وذاك لا يسمع لداعية ما لنفس السببب، والمحصلة أن يخسر الجميع خُسرانا مُبينًا.
إن التعصب الأعمى للأشخاص وتصنيفهم أيدلوجيًا والحكم عليهم حكمًا لا إنصاف فيه ولا موضوعية إنما هو من عصبية الجاهلية التي لا وصف لها إلا بما وصفها به النبي ﷺ حين قال: "دَعُوها فإنَّها مُنتنةٌ" [صحيح ابن حبان]
إن التعصب لا طائل منه؛ لأنه يُبدد الجهود ويشتت القوى ويحرق الحاضر ويُصادر المستقبل والحل هو أن نلتقي على الحد الأدنى الذي يصير به المسلم مُسلمًا، ونتعايش بعدل وإنصاف فالإسلام الذي أمرنا بالتعايش والعدل والإنصاف مع غير المسلم لا يقبل منا غير ذلك مع المسلم.
إن من ينظر لحالنا يجد أننا أنتجنا آلاف المؤلفات التي تتناول الاحتراب الطائفي والمذهبي، فهل من مؤلف واحد يعلمنا كيف يكون التعايش الإنساني الذي يهدف إلى استقرار الإنسان نفسيًا وبدنيًا ويحرره من كل ما يعوق عقله عن التفكير الصحيح ويصون فطرته من أن تتجه بوصلتها للاتجاه المعاكس!
وإن من يتدبر صدر سورة الروم يجد أن القرآن الكريم يعد النصارى أقرب إلى المسلمين من المجوس - عبدة النار- بالرغم من أن القرآن الكريم اعتبر النصارى كفارًا في مواضع أخرى.
تاسعًا/ البغضاء هي الحالقة
إياكم والتشاحن والبغضاء فيما بينكم، وإياكم ثم إياكم من فساد ذات البين، لا تكونوا مثل تلاميذ رياض الأطفال الذين يتعلمون (لعبة الكراسي) فتغرس في أذهانهم ثقافة الإقصاء، وأن الواحد منهم لن يتمكن من الجلوس على الكرسي إلا بعد صراع لإزاحة الآخرين، عن الزبير - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين" [رواه أحمد والترمذي]
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "ألا أخبرُكم بأفضلَ من درجةِ الصيامِ والصلاةِ والصدقةِ؟ قالوا: بلى، قال: إصلاحُ ذاتِ البينِ، وفسادُ ذاتِ البينِ الحالِقةُ" [أخرجه أبو داود] (المقصود بالصلاة والصوم في الحديث: النوافل وليس الفروض التي هي أساس الدين، قال ابن منظور: "الحالقة أي التي من شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما تستأصل الموسى الشعر")
التشاحن والبغضاء وفساد ذات البين من أمراض القلوب التي تنجم عن سوء الظن وهوى النفس والاستماع للشائعات وترديدها دون بيِّنة ولا تثبت
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ" [صحيح مسلم]، إن التشاحن والبغضاء وفساد ذات البين من أمراض القلوب التي تنجم عن سوء الظن وهوى النفس والاستماع للشائعات وترديدها دون بيِّنة ولا تثبت، والنيل من كل الذين يختلفون معنا في الفرعيات والجزئيات لا يجلب سوى الضعف والوهن وتغليب الهوى فلكل من يختلف معنا أدلته، ولكل أسلافه الذين يقتدي بهم وأتباعه الذين يقتدون به، ويكفينا أن يكون لدى الجميع القاعدة المشتركة التي يتفقون عليها ولديهم القسط الذي يكونون به تحت مظلة الإسلام وحظيرته.
رحم الله الشيخ عبد الحميد كشك الذي وصف الإمام حسن البنا فكان مما قاله فيه: "... عرفتُه داعيةً يجمع ولا يُفرِّق، يحمي ولا يُبدِّد، يصون ولا يُهدِّد، يشدُّ أزر الأصدقاء ويردُّ كيد الأعداء، عرفته رجلًا بعيد النظر، قويَّ الحجة، فاهمًا لأحداث عصره، مُجدِّدًا، رجلًا يتلافى الخلاف ويعمل على توحيد الأمة، عندما سُئِل الإمام الشهيد ذات يوم من أحد عشَّاق الفُرقة: لماذا تبني الجمعية الشرعية المساجد وأنتم لا تبنون؟! فقال: عليهم أن يبنوا المساجد، وعلينا أن نملأها"
يقول الشيخ القرضاوي رحمه الله: "لا ينبغي أن ننظر على الاختلاف على أنه قضية إيمان وكفر أو قضية صلاح وفسق أو قضية عصيان وطاعة"، إن القاعدة الأساسية للتعامل مع المسلمين المخالفين هي أن نلتقي على ما هو معلوم من الدين بالضرورة، والقاعدة الأساسية للتعامل مع غير المسلمين هي أن نلتقي على كل ما يخدم الإنسانية ولا يصطدم مع أركان الإسلام ومبادئه، وهذا وذاك يحصل في ضوء المحافظة على الأصول والتمايز وعدم الذوبان الذي يتعارض مع الهوية.
النفس البشرية تتوق إلى ما يخفف عنها المعاناة وتتلهف إلى ما يخلصها من لأواء الطريق ووحشته وتتطلع إلى يوم لا منغصات فيه ولا كرب ولا فراق! ولكن رحمة الله الواسعة يصيب بها من يشاء وقتما شاء وكيفما شاء
عاشرًا/ إياكم واستعجال استجابة الناس أو استعجال الفرج
يُحكى عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أن ابنه عبد الملك قال له: مالك لا تنفذ الأمور؟ فو الله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق، فقال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين، وحرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة.
إنني أعلم أن النفس البشرية تتوق إلى ما يخفف عنها المعاناة وتتلهف إلى ما يخلصها من لأواء الطريق ووحشته وتتطلع إلى يوم لا منغصات فيه ولا كرب ولا فراق! ولكني أعلم يقينًا أن رحمة الله الواسعة يصيب بها من يشاء وقتما شاء وكيفما شاء، رحمة أبدية لا تزول، رحمة عالم الغيب والشهادة، رحمة من خلق النفس ويعلم ما يصلح لها وما يُصلحها، رحمة من يرى حال العبد في الدنيا وكذلك يرى ما سيؤول إليه حاله في الآخرة، رحمة من لا يعجل بعجلة أحد من عباده.
يا أيها العجول، ألا ترى أن المرأة الحامل مع شدة ضعفها ووهنها لا تتمنى أن تضع وليدها قبل موعده بلحظة مع فرط حبها له ولهفتها لرؤيته لا لشيء سوى لأنها لا تفكر إلا في سلامته، فلا تعجل!
عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "كان مع رسولِ اللهِ ﷺ رَجُلٌ في بعضِ مَغازيه، فأَبْلى بَلاءً حَسنًا، فعَجِبَ المُسلِمونَ مِن بَلائِه، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: أمَا إنَّه مِن أهلِ النَّارِ، قُلْنا: في سَبيلِ اللهِ، مع رسولِ اللهِ، اللهُ ورسولُه أعلَمُ. قال: فجُرِحَ الرَّجُلُ، فلمَّا اشتَدَّتْ به الِجراحُ وضَعَ ذُبابَ سَيفِه بيْنَ ثَديَيه، ثُمَّ اتَّكَأَ عليه، فأُتيَ رسولُ اللهِ ﷺ، فقيلَ له: الرَّجُلُ الذي قُلتَ له ما قُلتَ، قد رَأَيتُه يَتضرَّبُ والسَّيفُ بيْنَ أضعافِهِ، فقال النَّبيُّ ﷺ: إنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ بعَملِ أهلِ الجنَّةِ فيما يَبدو للنَّاسِ وإنَّه لَمِن أهلِ النَّارِ، وإنَّه لَيَعمَلُ عَملَ أهلِ النَّارِ فيما يَبدو للنَّاسِ وإنَّه لَمِن أهلِ الجنَّةِ" [أخرجه البخاري]
أخيرًا أقول..
إذا كان الإسلام قد نهى عن الانتحار فإن قتل النفس والتمثيل بالروح أكبر جرمًا وأكثر إثمًا، وإذا كان الإسلام قد حرَّم قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق فإن قتلها معنويًا قد لا يقل إثمًا عن قتلها ماديًا، فليُحسن أحدنا توجيه بوصلة سهامه حتى لا يُسيء أكثر مما يُحسن وهو لا يدري!