كم منّا يشكو من جَفوة بينه وبين القرآن حتى عند من يداوم على وِرد يومي؟ كم مضى على تلك الجفوة؟ وكم منا أخذ تلك الشكوى بجدية وجعل همّه البحث عن حلّ لها بتصميم صادق؟ وكم مضى في ذلك البحث؟
اللافت أنّ أيّ مُقترح يُقترح لحلّ الإشكال يواجَه تَكرارًا بردّ: "لكنّ هذا يستغرق وقتًا"، وما تزال هذه العبارة على ابتذالها مدهشة حقيقة؛ لأنه من الطبيعي أن يأخذ كل أمر في الحياة وقته، فما وجه الاحتجاج بذلك؟!
لكنّ العجب ينجلي حين تتجاوز ظاهر العبارة لحقيقتها التخاذلية المرادفة لقول: "إن هذا يتطلّب جهدًا، ويمكنني إنفاق الوقت بالسنوات في الكسل والنوم والارتماء أمام التلفاز، لكن من العسير جدًا أن أتخيل نفسي - ناهيك أن ألزمها - تنفق وقتًا في العمل الجادّ على أمر ما، ونفسي لا تَملّ من دوام التحديق الأجوف بشاشة الهاتف عبثًا، لكنها بالتأكيد ستملّ من دوام العمل الجاد على حلّ ذلك الإشكال"!
إننا نقضي في البكاء على مشكلاتنا والدوران حولها أضعاف ما نقضي في تجربة حلول مختلفة بجدّية، بما يفضي إلى حلّ فعلًا، أو حتى إلى ارتضاء عدم وجود حلّ والتسليم بالتعايش معها (وهذا في حد ذاته حلّ)
الجدّية لا تنبع إلا من نفسية المتعلم لينصلح؛ لأنه وحده من سيكون مشغولًا باستحياء ما يتعلم، أي محاولة الحياة به، وهو وحده من عنده الدافع ليثابر ويصابر دون سباق "ضد" الزمن أو تنافس "على" الأقران!
وأوّل الجديّة سيكمن دائمًا في التوقف عن إهدار الأعمار في محاولات الترقيع المتأسلم، وإنفاقها عوضًا في محاولات الانضباط المسلم. وإنّ العمر يمضي على الحالين، لكن عمرًا ترجوه عند الله، خير من عمر تخدع نفسك بأنك "سترجوه "يوما ما"، وتعلم في قرارة نفسك أنك لن ترجوه على الحقيقة.. ولا يرضيك أن تجده تلقاءك يوم حسابك!
ثم الجدّية لا تنبع إلا من نفسية المتعلم لينصلح؛ لأنه وحده من سيكون مشغولًا باستحياء ما يتعلم، أي محاولة الحياة به، وهو وحده من عنده الدافع ليثابر ويصابر دون سباق "ضد" الزمن أو تنافس "على" الأقران! وأول الاستحياء التفكر، أي نظر المتعلّم الجادّ في شأن نفسه وحاله: هذا الذي تعلمته كيف أحيا به؟ ما نوع الحياة الممكنة به فكريًا أو وجدانيًا أو سلوكيًا أو اجتماعيًا...؟ ما الذي يمنعني من ذلك؟ ما الذي يعين على ذلك؟
وإذا جئنا نطبق مبدأ الأسئلة التفكرية على المثال المذكور: إذا وجدت نفسك تسرح أثناء القراءة، سائل نفسك: لماذا أسرح؟ هل المفردات مستعصية علي؟ أم أنني لا أجتهد كفاية في التركيز؟ هل يمكنني جمع تركيزي لخمس دقائق؟ لماذا لا أبدأ بقراءة تفسير الآيات على تطبيق قبل تلاوتها وأستحضر معانيها؟ استمر في سِلسَال التساؤلات وتجربة مختلف الإجابات، ولا يكن همّك تعجّل الوصول لـ "الإجابة"، بل انسجم في معايشة رحلة إيجاد الجواب كيفما تستغرق، فأحيانًا تكون الإجابة هي رحلة التساؤل ذاتها.
من جهة لا تغترّ بحسن ظنّ الناس بك لما يَظهر لهم من صلاح حالك، ومن جهة ثانية، لا تَدَع سوء ظنّ الناس بك وذمّهم لك على ظاهر التعارض بين كلامك وحالك يثبّطك عما تشتغل به من مجاهدة في نفسك
ختامًا، حاذر من موازين الناس في الحكم عليك، فمن جهة لا تغترّ بحسن ظنّ الناس بك لما يَظهر لهم من صلاح حالك، ومن جهة ثانية، لا تَدَع سوء ظنّ الناس بك وذمّهم لك على ظاهر التعارض بين كلامك وحالك يثبّطك عما تشتغل به من مجاهدة في نفسك. وكلُّ امرئٍ على نفسه بصيرةٌ لا تكون منه على غيره، ولا تكون من غيره عليه. فعليك بما تعلمه أنت من حقيقة حالك ومجاهدتك لتقويمه باطنًا، مع الاستمرار في تأدية ما عليك من مسؤولية بلاغ بما تعلم، وإن لم تكن تحققت بعمله تمامًا، واذكر دائمًا قوله تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25]
ومفتاح الموازنة يكمن في قلب المتعلم، بإخلاصه لمسألة العلم وتقديره لمسؤولية التعلم، ومثابرته في فهم ما يُشكِل عليه من كل سبيل متاح، وتركيزه فيما ينفعه ويصلحه، والاستعانة بالله تعالى أول الأمر وأوسطه وآخره: {احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ، ولا تعجَز} [مسلم].
"سُئلَ الإمام مالك رحمه الله عن طلبِ العلم ، فقال: حسنٌ، ولكن اعرف ما يلزمك من صباحك إلى مسائك فلا تُؤثِر عليه شيئًا"
[أحمد زَرُّوق - "إعانة المتوجّه المسكين إلى طريق الفتح والتمكين"]