تتعدد الأنساق التي تُدرَسُ بها مفاهيم مركزية جامعة مثل "الحضارة" (Civilization)
ولكن، ولَئِن كان هناك مُكوِّن أهم من غيره يدخل في تكوينه، فهو مفهوم "الأُمَّة" (Nation).
ووفق دراسات العمران وعلم الاجتماع (Sociology)، وفرعه المهم، الاجتماع السياسي (Political Sociology)
فإن هناك تشابُهًا كبيرًا في المحتوى بين مفهوم "الحضارة" ومفهوم "الأمة"
كما في حال المقارنة بين "الحضارة" ومفهوم آخر يعدُّ مكوِّنًا أساسيًّا فيها
وهو "الثقافة" (Cultural) وهي بدورها مثل الحضارة فعلٌ مُتطوِّر ينهض على التراكُم.
دراسات التاريخ والتاريخ السياسي للدول والأمم الكبرى يشير إلى أنه لا يمكن لكيان ما - أو دولة ما، مهما كانت قوتها - أن يقيم حضارةً من دون أن يكون هذا الكيان، أو هذه الدولة مُعَبِّرَة عن أُمَّة
فدراسات التاريخ والتاريخ السياسي للدول والأمم الكبرى يشير إلى أنه لا يمكن لكيان ما - أو دولة ما، مهما كانت قوتها - أن يقيم حضارةً من دون أن يكون هذا الكيان، أو هذه الدولة مُعَبِّرَة عن أُمَّة.
وهو ما يمكن ملاحظته ببساطة من خلال النظر إلى حالة الاتحاد السوفييتي السابق؛ فالاتحاد السوفييتي السابق بينما استطاع بناء دولة قوية صناعيًّا وعلميًّا وعسكريًّا – وهي من المعايير الأساسية لقوة الدول – سادت العالم لعقود طويلة، إلا أنه لم يستطِع أن يبني أُمَّةً، فتفككت الدولة بددًا.
بينما – والمقارنة مفيدة هنا – روسيا، حجر الأساس الذي نهضت عليه دولة الاتحاد السوفييتي، استطاعت بناء حضارة دامت لقرون، واستمرت حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وواجهت الكثير من التحديات التي لم يستطِع الاتحاد السوفييتي مواجَهَتَها، بالرغم من أن ثروات وقوة الاتحاد السوفييتي المادية كانت أكبر بكثير من روسيا باعتباره كان كيانًا يضم الكثير من الدول الأصغر، وحتى بعضها – مثل أوكرانيا – كان مهيمنًا على ثروات مهمة للعالم مثل الحبوب؛ ذلك لأن الاتحاد السوفييتي كان "دولة" (State)، بينما روسيا "أُمَّة"، صحيح أنها مرَّت بمراحل ضعف بموجب قوانين العمران الصارمة في مثل هذه الأمور، إلا أنها لم تنهَر أو تبيد.
بطبيعة الحال، نعارض النهج الروسي العدواني في عالمنا العربي وأوروبا الشرقية والوسطى، ولكن دراسات العمران والاجتماع الإنساني والسياسي تنظر إلى الأمور من وجهة نظر موضوعية مع حقنا في الاحتفاظ بمواقفنا المبدئية هذه لأنفسنا؛ لأن ذلك من الأهمية بمكان للاستفادة من الدروس والعِبَر الموجودة في مثل هذه النماذج؛ الناجحة والفاشلة على حَدٍ سواء.
ومن بين أهم مجالات التشابك بين مفهوم "الحضارة" ومفهوم "الأُمَّة"، هو البناء التراكمي، وهو في نفس الوقت الضامن الرئيسي لبقاء الأُمَّة؛ فإن التاريخ المشترك - بما يتضمنه من نضالات - وتأسيس جذور مشتركة بين أبناء الأمة الواحدة يحفظ لها بقاءها، ويضمن لها أنها – بعد أن تتجاوز عَثَرَاتِها – تقوم وتنهض من جديد.
خلافًا للنظرة الشائعة فإن العوامل المادية التي تنهض عليها أية أُمَّة، مثل التاريخ والسِّمَات والصِّلات المشتركة، أو الأصل العرقي، أو الدين؛ ليست هي الأساس في النهضة الحضارية لأيَّة أُمَّة؛ لأن ذلك يسبقه عامل معنوي مهم، وهو وجود إحساس جمعي لدى عناصر هذه الأُمَّة بذاتهم الحضارية
وفي الحقيقة أنه - وخلافًا للنظرة الشائعة - فإن العوامل المادية التي تنهض عليها أية أُمَّة، مثل التاريخ والسِّمَات والصِّلات المشتركة، أو الأصل العرقي، أو الدين؛ ليست هي الأساس في النهضة الحضارية لأيَّة أُمَّة؛ لأن ذلك يسبقه عامل معنوي مهم، وهو وجود إحساس جمعي لدى عناصر هذه الأُمَّة بذاتهم الحضارية.
فمن دون هذا الإحساس (إحساس أفرادها بأنَّهم أُمَّةٌ واحدةٌ، متمايزةٌ، وهو ما يُسمَّى بالروح القومية، وأن يكون لديهم الإحساس بالكبرياء والاعتزاز القومي) لا يمكن الحديث عن نهضة الأُمَّة، أيَّة أُمَّة.
فهذا له أكثر من نتاج، منها الإحساس بأنهم كُلٌّ واحدٌ، وبأن مصيرهم مشترك، ويقود ذلك إلى التعاون والتضافُر، والعمل المُوَحَّد، وبالتالي تحسين قدرات الأُمَّة على مواجهة المخاطر التي قد تحيط بها، والتحديات التي تواجهها، وتعظيم ما يمارسه الأفراد من أنشطة في إطار مبدأ أن الكل أكبر من مجموع أجزائه.
بالإضافة إلى إحساس هذه المجموعة من الناس بأنهم يستحقون مكانةً أفضل في العالم الذي يعيشون فيه، تنسجِم مع تراثهم الحضاري وقيمته في التاريخ، فيسعون إلى حياة أفضل، وامتلاك عناصر القوى المختلفة، والإسهام في السباق الحضاري، في مختلف مساراته: العلوم والتقنية، البناء والتعمير، التطوير الحَضَري الريفي والمديني، وغير ذلك من الصور.
وفي الجانب الذي يُهمُّنا ويعنينا في هذا الموضِع من الحديث، فإنه ليس من قبيل التحيُّز القول إن الإسلام هو الدين الوحيد - أو الأيديولوجية أو الفكرة الواحدة - الذي استطاع تحقيق الأبعاد التضامنية وهذا الإحساس العظيم بالانتماء إلى أُمَّةٍ واحدةٍ برغم اختلاف الألسُن والألوان والأعراق والتاريخ لدى الأمم التي دخلت فيه، بل إنه استطاع إقامة أُمَّة ناهضة قوية سادت العالم سياسيًّا وحضاريًّا لقرون طويلة على أشتات شعوب وقبائل، وأمم كانت تتصارع فيما بينها، وكانت بينها عداوات لقرون طويلة .
يعود ذلك إلى قوة ومتانة العقيدة التي أسسها الإسلام في نفوس أتباعه، وتأكيده على سُمُوِّ وارتقاء الانتماء إليه على ما دون غيره من الانتماءات الأخرى الأدنى، وتشكيله لشخصية واحدة لدى كل مسلم في هذا العالم، وعبر التاريخ، مع المرونة الكافية لحرية تعبير الإنسان عن انتماءاته الأخرى من دون تصادم معها في مزيج بنَّاء ينأى عن العصبيات الجاهلية، ويعظِّم من إيجابيات الإسهامات الحضارية التي بنتها الأمم الأخرى قبله، ولا يمكن أن نجده إلا في تدبير الحكيم العليم سبحانه وتعالى.
ولذلك، فإنه عندما كان المسلمون على هذه الدرجة من الوعي بالذات، وبالانتماء إلى أُمَّةٍ واحدةٍ، كان كل مسلم في هذا العالم، على علاقة وثيقة بأي مسلم آخر، ولو لم يلتقِه في حياته، مع ما بناه الإسلام في نفوسنا من وشائج وروابط أخوة وانتماء واحد.
والنماذج التي يسوقها لنا التاريخ كثيرة، فجيوش صلاح الدين التي هزمت الصليبيين شرَّ هزيمة، مثلاً.. كانت بقيادة قائد من أصول كردية، وعمودها الفقري قادة وجنود من مصر والشام والعراق - عربًا وعجمًا - تجمَّعوا كلهم تحت راية الإسلام الذي حارب في تلك الحرب حربًا إنسانية قبل أن يحارب حربًا دينية؛ فقد استنقذت جيوش المسلمين وقتها بلاد الشام والمشرق من ظلم الصليبيين الذي طال مسيحيي المشرق الذين لم يعرفوا اضطهادًا قط عبر تاريخهم مثل الذي عانوه من مسيحيي أوروبا الغازين.
لا يمكن بحال من الأحوال الحديث عن نهضة الأمة المسلمة من دون العمل على إعادة الاعتبار لمفهوم الذات الحضارية لدى المسلم في كل مكان من هذه الأرض
ولعلنا نلاحظ افتقار برامجنا التربوية والإعلامية لهذا الأمر، برغم أن ذلك خطأ كبير، كيف يمكنني أن أقنع المسلم في بلد ما بعيد عن المنطقة، بالجهاد ضد الصهاينة في فلسطين، وهو لا يشعر بأنه أخٌ لمسلم فلسطين المضطهد المظلوم، وأنهما يشتركان في ذات الهَمِّ، وأن قضية المسلم الفلسطيني لا تنفصم عن قضايا المسلم الإندونيسي أو الماليزي أو البورمي أو المسلم البرازيلي والأمريكي وفي كل بقاع الأرض؟!
بالتأكيد لا يمكن ذلك، وبالتأكيد، ووفق كل ما أثبته التاريخ من قواعد دَوَّنها العمرانيون المسلمون وغير المسلمين في كتبهم، لا يمكن بحال من الأحوال الحديث عن نهضة الأمة المسلمة من دون العمل على إعادة الاعتبار لمفهوم الذات الحضارية لدى المسلم في كل مكان من هذه الأرض؛ فكيف يمكن إقامة أُمَّة من أُناسٍ لا يعرفون – في الغالب – أن عقيدتهم تعني الانتماء إلى هذه الأمة؟!
وهو واجب أهم ما يكون، وأول ما يجب أن يفعله قادة الرأي والقادة المُعتَبَرون في المجتمعات المسلمة، وأن تنتبه له المحاضِن التربوية الحركية في مخاطبتها لعموم الناس، وليس للصَّفِّ المنتمي إليها فحسب.