يستهين الكثيرون بدلالة الوقر، فيظنون أنّ مجرد تلقي العلم يعني وَقْره، وبالتالي يتعجبون حين لا ينعكس ما تعلّموه ببساطة وتلقائيّة في عملهم، والحقّ أن "سكون" أمر ما في النفس، وقراره في القلب، لدرجة أن ينبعث من صاحبه تلقائيًا، دونه مراحل وليست مجرد خطوة، وعلى رأسها:
• العلم: وهذه المرحلة وحدها عامرة بالآفات التي فندناها في مقال سابق بعنوان "آفات في منهج طلب العلم"
• التفكر والتدبر: وهذه المرحلة شبه منعدمة عند غالب المتعلّمين، أو إذا وُجِدت لا تخلو من سوء الفهم والتطبيق، على ما سبق تفنيده كذلك، ومما يجعل التفكر والتدبر مُسدّدًا ومثمرًا وبنَّاء، مراعاة مدخلات المنافذ التي تغذّي عقلك ووجدانك: من قراءات ومسموعات ومرئيات وتفاعلات وسياقات.
تَيَقّظ لما تحيط به نفسك وتنبّه لأثر المؤثرات التي تعرّض لها كِيانك، فهي تصوغ تصوراتك وتصبغ أفعالك وهيأة نفسك أكثر مما تظنّ
درجات التصديق
العمل التطبيقي ليصدّق السلوك ما وَقَر في الفكر والوجدان هو كذلك درجات، وليس دفعة واحدة، ومن درجاته الأساسيّة:
1. التخيل:
وذلك بتَكرار تخيّل التزامك بما تعلّمت على الوجه المراد وبتفاصيله الدقيقة، حتى تنطبع الصورة في الذاكرة ويختمر وَقعها في الوجدان، فإذا حانت لحظة التطبيق، وجدتَ أنّك مَسُوق لها في الواقع، وصار مسلكك أشبه بردة فعل انعكاسية تلقائية، تُصدِّق معها حركة جوارحك الفعليّة حركتها التخيّليّة بسلاسة.
ثمة فارق بين تكلّف حال حتى يستقيم لك طبعًا، وأن يصير التكلف هو طبعك الدائم لأنك لا تصبر على الطبع حتى يختمر فيك!
2. التّكلُّف:
ثمة فارق بين تكلّف حال حتى يستقيم لك طبعًا، وأن يصير التكلف هو طبعك الدائم لأنك لا تصبر على الطبع حتى يختمر فيك! ومعنى التكلف: "كَلَّفَهُ تَكْلِيفًا أَيْ أَمَرَهُ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَتَكَلَّفْتُ الشَّيْءَ: تَجَشَّمْتُهُ عَلَى مَشَقَّةٍ وَعَلَى خِلَافِ عَادَتِكَ"، وفي هذا السياق، يكون التكلف المقصود والمحمود هو تحمّل مشقة مخالفة عادة أو طبع لا ترتضيهما، لتربية ما تبتغيه والتطبّع به.
ومما ينبغي وضعه في الاعتبار تلافيًا للإحباط بسرعة، أنّ التكلف يمكن أن يكون جزئيًا، أي أن تُوَفق في موقف دون موقف، وبالتفكر والمقارنة بين اختلاف مسلكك في نفس الأحوال والمواقف، يمكنك الوقوف على الأسباب التي منعتك من إتيان السلوك المحمود وتلك التي حفّزتك على التحقّق به، حتى يتحقق لك بتوفيق الله تغليب الكِفَّة المَرجوَّة.
3. التطبّع:
هذا طور انتقالي، وهو مرحلة دقيقة بين التكلّف والطبع، ويعني أنك بدأت تتأقلم مع ما تتكلفه بحيث صار ملحوظًا فيك، وإن لم يغلب بعد على عادتك السابقة بالكليّة.
4. الطبع:
وهو "خَلِيقَةُ وَسَّجِيَّةُ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ وَسُهُولَةِ أَخْلَاقِهِ وَحُزُونَتِهَا وَعُسْرِهَا وَيُسْرِهَا وَشِدَّتِهِ وَرَخَاوَتِهِ وَبُخْلِهِ وَسَخَائِه... وَالطِّبَاعُ: مَا رُكِّبَ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي لَا يَكَادُ يُزَاوِلُهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ" [لسان العرب]، ومن التعريف يتضّح أنه ليس كل ما وُلد عليه الإنسان جِبِلّة أو نشأ فيه تربية يمكن تغييره بسهولة، لكنّ تَعذُّر تغيير البعض لا ينفي إمكان تقويم البعض الآخر، كما أنه ليس المطلوب قلب الطباع كلها ولا التحوّل التام عنها جميعًا، بل غاية المطلوب بعض التعديل والتهذيب، كما تُقَلَّم الأظافر ولا تُنزَع من اللحم!
ليس كل ما وُلد عليه الإنسان جِبِلّة أو نشأ فيه تربية يمكن تغييره بسهولة، لكنّ تَعذُّر تغيير البعض لا ينفي إمكان تقويم البعض الآخر
• طبيعة العلاقة بين الوقر والتصديق
ينبغي أن يكون قد اتضح مما سبق أنّ بين الوقر والتصديق علاقة تناغم وتسلسل طبيعي، ومساحة اختمار داخلية قبل النضوج الخارجي، ولو استعملنا التشبيه النباتي، فالوقر هو الغرس، والتصديق هو الإنبات، وما بينهما تربية وتعهّد، فما قولك فيمن بذر بذرة شجرة، واستمرّ في تعهّدها بضعة أيام أو أسابيع، ثم مَلَّ الانتظار واستبطأ نمو الشجرة، فتركها مُتذمرًا أنها غير ذات جدوى؟!
فكذلك نحن نحاول مرة، ثم حين لا نَصِل لصورة معينة اخترعناها في رؤسنا نُحبط ونتوقف، وربما نُعاود نفس الكَرَّة لاحقًا، وبين كل محاولة ومحاولة خط طويل من الخمول والهمود والإحباط، وبالتالي في كل مرة نعيش منحنى أعلى القمة ثم أدنى القاع ثم الركود الكاسح! والإشكال الحقيقي أنّ نهج حياة اليوم القائم على السرعة الصاروخية والهوى الطاغي لا يدع مجالًا لكل هذه الجَوْلات والصَّوَلات التي يتطلبها التربّي والتزكّي والتفكر والتمهّل، وبذلك لم تَضِق علينا الديانة فحسب بل ضاقت علينا أنفسنا وضقنا بها.
نعيش حياة منسوبة لنا، بكِيان محمول فينا، لكن لا تلك حياتنا ولا ذاك كياننا.
قبل أن تتعجل العمل بالعلم، تأكد أنك علمت حقيقة وليس فقط عرفت، وأنّ هذا العلم رسخ في فكرك قناعة، وأثمر في وجدانك تدبرًا وتفكرًا فيه
• مبدأ الخلل دائمًا في الوقر أولًا
كلّ إشكالات الهدى والضلال والإيمان والكفر مبدؤها الوقر، فالمستكبر عن الحقّ لم يَقَر فيه الحق لصدود مُتَعمَّد منه، والمنافق لم يَقَر فيه أصلًا، والغافل لم يَقَر فيه كفاية، وأما المجاهدُ لنفسه فلم يَقَر فيه بعد؛ لأنه في اللّحظة التي يستقرّ فيها الإيمان في قلب الإنسان بكل ما يحمله الاستقرار من معنى، يعبّر عن ذاته تلقائيًا بالحركة (بأنواعها الثلاثة).
فالسؤال الذي ينبغي أن يشغلنا ليس لماذا لم يحرّكنا الإيمان، بل هل وقر فينا أصلًا أم لا؟ وإلا كيف يُعبِّر عن ذاته وهو لا ذات له في ذواتنا، التي هي بدورها في حكم العدم عندنا؟ وذلك كما {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 14]
ثمّ هل سمعتَ عن دواء مهما بَلَغت قوّته يدوم أثره من مَرّة واحدة؟! أو عن بقعة في قماش زالت بمجرد غمسها غمسة يسيرة في الماء ثم رَفعِها؟!
لا بدّ من تَكرار التعرّض والنقع، والفَرْك والحَكّ، وهذا بدوره يتطلب الدوام والصبر والمصابرة، ثابر على طلب العلم وسُبُل التذكرة بهدف تجديد يقظتك وتعميق قناعاتك ووَصْلِ إيمانك بأسباب الحياة، والعمل الذي تنشده والحركة التي تتعجّلها، يتولّدان بالفعل في رَحِم تلك المثابرة لا خارجها.
لذلك قبل أن تتعجل العمل بالعلم، تأكد أنك علمت حقيقة وليس فقط عرفت، وأنّ هذا العلم رسخ في فكرك قناعة، وأثمر في وجدانك تدبرًا وتفكرًا فيه، هذه أولى درجات العمل بالعلم، أما صور الحركة التي تنشأ بعد ذلك فهي تنشأ تَبْعًا وانعكاسًا بالضرورة ليس إلا.
ثمّ اذكر أنك بالعلم وإن غلبتَ الجهل، تظلُّ عُرضة للجهالة، أي ارتكاب الحماقات المخالفة لمقتضى العلم والعقل؛ لأنّ التعلّم مرة والتربية عمر، ومهما ظننت أنك علمت وفهمت، فلن تعلم وتفهم على الحقيقة حتى تُختَبَر وتُحَكّ، ولعلك تصدم الصدمة الأولى حين تترنح استجابتك لما تستدعيه مما تعلّمت، بل لعلّك تشعر أنك أُمِّيٌ لم تتعلم شيئًا قبل هذا الاختبار وذاك المِحَكّ.
فلا تجزع ولا تيأس، بل تنبّه وتفكّر وثابر على عرض عملك على علمك وفكرك على واقعك وعقيدتك على قلبك، يتكشف لك جوهر الوعي بعد قِشْرَته، وتنقدح لك بصيرة البصر، وعندها يَحِقّ الحق بحقّ!
إذا كان العمل تصديقًا للعلم، فلا تصديق بغير صدق، ورأس الصدق دوام الاستعانة بالله ودوام الصبر على أمر الله
"وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا: بعلم، وحال، وعمل" [الغزالي: إحياء علوم الدين]
وإذا كان العمل تصديقًا للعلم، فلا تصديق بغير صدق، ورأس الصدق دوام الاستعانة بالله ودوام الصبر على أمر الله، "لا حول ولا قوة إلا بالله" تعني أنه لا انتقال من حال إلى حال إلا بالله تعالى، ولا قدرة على تلك النقلة إلا بالله تعالى، وكم ندّعي الاستعانة بالله تعالى ثم نَغفُل عن أو لا نوقن بحقيقة أنّ الأمر كله بيد الله تعالى، وأنه هو الذي يحول بين المرء وقلبه أو يهديه من الظلمات إلى النور، مثابرتك وصبرك ودعاؤك وتوسلك لله تعالى أن يعينك ويصلحك.
هذا عين العمل الذي نغفله، وبالتالي لا نحن فقهنا العلم ولا رُزقنا العمل! بل وبدل أن نشرع في خوض رحلة التربّي التي نعرفها ونعرف أُولى مطالبها على الأقل، نُصِرّ على أننا لا ندري المبدأ من المنتهى!