مشهد دافئ في صباح عيد الفطر المبارك يحصل في بعض بيوت المغرب العربي..
صباح العيد ينطلق الزوج إلى أداء صلاة العيد مع أبنائه ورجال العائلة ربما، وعندما يعود تستقبله الزوجة في أبهى زينتها بعد أن نظفت بيتها وجهزته وزينته، تقدّم له القهوة مع الحلوى، وبدوره يحتسي الزوج القهوة ولا يعيد إليها الفنجان فارغًا، بل يرده وقد وضع في داخله هدية.
انتشرت هذه العادة منذ زمن طويل في المغرب العربي، ويتردد أنها لا تزال حاضرة ومنتشرة في تونس والمغرب والجزائر، وقد شاعت عنها عدة تسميات في البلدان المختلفة، مثل: التكبيرة في المغرب، الكبيرة في ليبيا، حق الطعام في الجزائر، وحق الملح في تونس، ولكل تسمية سببها ومبرراتها.
الهدية التي يقدّمها الزوج ويتركها في فنجان القهوة المحتسى صباح العيد هدية رمزية حسب قدرات الزوج المادية
لمّا ظهرت تلك العادة كانت الهدية التي يقدّمها الزوج ويتركها في فنجان القهوة المحتسى صباح العيد هدية رمزية – حسب قدرات الزوج المادية - مثل: علبة حناء، محرمة الفتول الجزائرية (وهي وشاح ترتديه نساء العاصمة الجزائرية على رؤوسهن) وفي أفضل الأحوال قد يضع الزوج في الفنجان: قطعة ذهبية، أو فضية.
وتعود هذه العادة الجميلة إلى عقود من الزمن؛ فقد قيل إن عادة حق الملح ظهرت خلال الحكم العثماني في الجزائر ثم انتقلت منها إلى بقية بلاد المغرب العربي، وفي رواية أخرى أن من جلبها إلى المغرب العربي هم أهل الأندلس الذين هاجروا قديما إلى شمال أفريقيا وقد حافظ السكان عليها لاحقًا وتناقلوها جيلًا بعد جيل، ولم نكن نسمع عنها من قبل؛ ربما لأن عصر "السوشيال ميديا" لم يعد يبقي أسرارًا!
اقرأ أيضًا: الاستهداف الإعلامي لقيم المجتمع وأفكاره ومفاهيمه في رمضان
أتحدث عن هذه العادة اليوم – وهي إحدى العادات الشعبية الجميلة في رمضان - لأنها شغلت مواقع التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة السابقة كثيرًا، وما إن يؤذِن رمضانُ بالانتهاء ويأزف رحيله تضجّ المواقع ويتحدث عنها كثيرون ويبدؤون بمقارنة عادات البلدان ومقارنة الهدايا، بالذات أن دوامة التكاثر والتباهي تكاد تجرف المجتمع بأكمله.
هذه العادة تشبه عادة منتشرة في بلادنا العربية عمومًا وهي هدية العيد/ أو العيدية المالية للزوجات والبنات والأطفال، ويشبهها أيضًا تقديم المبالغ التي يصرفها الأزواج والآباء لشراء ملابس جديدة للعيد في نهاية رمضان، أو بعد انتصافه ربما، وهي عادة محمودة طالما لم تكن مرهقة ماديًا.
جميل جدًا أن يقدّر الرجل للمرأة جهدها، لكن ما ينبذ هو التباهي بالهدايا التي تعدت كونها لطيفة ومتواضعة إلى هدايا باهظة الثمن، أو التزوير في تقديم الهدايا لمجرد التباهي أو الحصول على جمهور ومتابعين...! فقد انتشر إهداء سيارات فاخرة، رزم من الدولارات أو الأيوروهات، أطقم ذهبية وألماسية كاملة، هواتف ذكية، وعقود تمليك لعقارات وأراضٍ في بعض الحالات بالتأكيد... وهذا – بالرغم من أنه مبالغ فيه بشهادة النساء المغربيات والجزائريات أنفسهن - فتح عيون النساء الأخريات، خصوصًا وأن الحديث عن عدم وجوب خدمة الزوجة لزوجها بدأ أخيرًا يطفو أيضًا ويُتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي من قبل النساء والإعلاميات وبعض المشايخ.حق الملح – بتسمياته المتعددة – يشير في المجمل إلى ردّ الجميل إلى المرأة والشكر على حسن العشرة خلال الشهر الفضيل، وليس يخص الزوج فقط بل الأب والأخ، ويقدم هديته إلى الأم والابنة والزوجة والأخت
أما حق الملح – بتسمياته المتعددة – يشير في المجمل إلى ردّ الجميل إلى المرأة والشكر على حسن العشرة خلال الشهر الفضيل، وليس يخص الزوج فقط بل الأب والأخ، ويقدم هديته إلى الأم والابنة والزوجة والأخت...
وليس يُقْصَدُ الملح (كمادة) بل كحُسن عشرة وعطاء وكرم ونُبل تصرف، وإن كان آخرون يقولون إن التسمية جاءت بسبب اضطرار الزوجة لتذوق ملح الطعام طَوَال الشهر المبارك بطرف لسانها كي لا يفسد صيامها، أما من سموها بالتكبيرة فلأن الزوجة تقدّم طوال الشهر الكريم طعامًا شهيًا معتمدة على رؤية عينها أو إحساسها وخبرتها وتطبخ بمقادير تقديرية، ومع ذلك تقدم طعامًا متميزًا وشهيًا بالإضافة إلى أداء عباداتها والالتزام بالطاعات بل والإكثار منها...
كما أن بعض النساء موظفات يعملن خارج البيت ولا يقصرن داخله لا في شهر رمضان ولا غيره، لذلك فإن تلك المجتمعات يكبرون هذا الفعل للمرأة التي تكرم رجال بيتها بأطايب الأكل وتبذل جهدا إضافيًا فوق جهد العمل والعبادات.
اقرأ أيضًا: في معنى الرقي والوصول إليه
ولأن تلك العادة في كل الأحوال والمبررات والتسميات تعني الاعتراف بفضل المرأة، وبحق العشرة الزوجية، والاحترام للسنين التي قضاها الزوجان بحلوها ومرها متعاضدان، متعاونان ومتراضيان، كما تمثل عادة حق الملح تكريمًا للمرأة على صبرها وعطائها، فيمكن أن يعتمدها الموسرون والجميع حسب قدراتهم وإمكاناتهم خصوصًا وأنها تؤكد الترابط الأسري وتدعمه وترسّخ قيمة الأسرة وتكرّم المرأة وتثمّن ما تقدمه وتفعله لأسرتها، في هذا الزمن الذي تُستهدف فيه الأسرة مثل كل مظاهر الفطرة السوية.
وبشأن حق الملح إذ ظنّت فئةٌ أنها عادة غريبة واستهجنها الكثيرون وتمنتها الكثيرات، وددت أن أوكد على أن أحكام الإسلام وتشريعاته تفيض بمعاني المودة والرحمة والحنان وبآلاف المعاني الرقيقة، كما اختص ديننا السمحُ النساء بالتحديد بعشرات الأحاديث والتوصيات والآيات، وسماهنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمؤنسات الغاليات، وأوصى بهن الرجال كأنهنّ ميراث لا يوجد ما هو أغلى وأثمن للحفاظ عليه من النساء.
اختص ديننا السمحُ النساء بالتحديد بعشرات الأحاديث والتوصيات والآيات، وسماهنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمؤنسات الغاليات، وأوصى بهن الرجال كأنهنّ ميراث لا يوجد ما هو أغلى وأثمن للحفاظ عليه من النساء
وليس أدل على ذلك من تصرف الرجال المسلمين بمجرد أن يلملم رمضان أمتعته ليرحل ويأتي العيد؛ ففي كل عام في مثل هذه الأيام تكتظ الأسواق بآلاف الأسر التي تخرج إلى المحال مجتمعة بمجرد الانتهاء من صلاة التراويح؛ لكي تجهّز أبناءها للعيد بالملابس والألعاب والهدايا وغيرها من مأكولات ومشروبات تعد جزءًا من طقوس العيد وتقديم واجبات الضيافة كلٌّ بحسب وضعه المادي والاقتصاديّ.
ولذلك فإنني وجدت من الجيّد أن نشجع العادات التي تلتقي مع أحكام الدين الإسلامي وتستقي منها الجمال والرحمة.
اقرأ أيضًا: لفتات رمضانية مُحِبَّة في الطريق إلى رمضان القادم
وأخيرًا...
أكرر أن في متسع الحديث هذا فرصة لنرى كم هو جميل تشجيع استمرار العادات الجميلة التي لا تخالف الدين؛ بل وأجمل من ذلك ونعما هي العادات التي توافق شرائع الإسلام أصلا مثل عادة حق الملح ؛ خصوصًا أنها تدعم تطبيق الشرع ومحبّة تعاليمه، وترسّخ جمال ودفء فكرة بناء الأسرة المسلمة، وتلوّن الحياة بألوان تزيدها بهاءً وتخفف أحمال المسؤوليات وهموم المعيشة.
كتب ذات صلة بالموضوع
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- الجزيرة نت/ موقع العين/ الشروق الجزائرية/ اليوم السابع/ روسيا اليوم/ صدى البلد