فيما يلي عرض لمنهجية مقترحة في التعلم، جوابًا عن سؤالَيْ: كيف أحيا بما أتعلم؟ وكيف أتعلم لما أحياه؟ ويمكن أن تصلح في جوهرها لعلوم الاضطرار وغيرها من أنواع العلوم، ونبدأ ببيان مَعلَمين تمهيديين ليرسم المتعلّم تصوّره لمنهج تعلّمه:
1) المَعلَم الأول: مسارا التعلم
للتعلم عامة مساران أساسيّان بحسب كل متعلم واختياره، وهما التعلم بالتوالي أو التوازي:
- التوالي: أن تنهي مجالًا (كالفقه) قبل الانتقال لغيره (كالتراجم)؛ أو تنهي مرجعًا واحدًا في المجال (ككتاب تفسير) قبل الانتقال لمرجع آخر في نفس المجال (كتاب تفسير آخر).
- التوازي: هو الدمج في نفس مرحلة التعلم، إما بين المجالات (كالمستوى الأول من الفقه مع تعلم التجويد مثلًا)؛ أو بين مراجع المجال الواحد في نفس الوقت (كمطالعة تفسير سورة في عدد من التفاسير).
إنّ مادة العلم ذاتها قد تكون نافعة لكن لا تنتفع أنت بها لأسباب عدة: لعلها ليست مجالك، أو سابقة لأوانها، أو هي في حقّك تُخَمَة معرفيّة لا تُجيب عن تساؤل ولا تُخاطب حاجة ولا تُوسِّع أفقًا
2) المَعلَم الثاني: نوع الحاجة وقدرها
ميزان الحاجة من الموازين التي تمنع وقوع الفجوة بين العلم والعمل، ذلك أنّ المرء لا ينسى ما يحتاج، ولا ينسى ما يسعى منتبهًا واعيًا لتحصيله، إننا نشرب في حياتنا آلاف أكواب الماء، لكنّ الكوب الذي نستشعر له الحمد من صميم قلوبنا، هو ما يكون بعد عطش حار أو صيام طويل، أي في قمّة "احتياجنا" إليه، نادرًا ما يحتاج المرء شيئًا حاجة حقيقة ثم لا ينتفع به إذا حصّله، ثم إنّ مادة العلم ذاتها قد تكون نافعة لكن لا تنتفع أنت بها لأسباب عدة: لعلها ليست مجالك، أو سابقة لأوانها، أو هي في حقّك تُخَمَة معرفيّة لا تُجيب عن تساؤل ولا تُخاطب حاجة ولا تُوسِّع أفقًا... إلخ. [تفصيل هذا الميزان مع موازين أخرى لانتقاء ما تقرأ وتتعلم في الفصل الخامس من كتاب: إضاءات على طريق بناء الذات]
المهم أن يكون لدى المتعلم تقدير مبدئي لما يحتاج البدء بتعلمه، ثم البناء عليه بحسب توسّع حاجته لاحقًا إذا توسَّعَتْ
- "نوع" الحاجة = تعيين غايتك من الإقبال على تعلم ما تتعلم: هل تتعلم لتبني لك تصوّرًا في مجال تجهله بالكلّية؟ أم لتستدرك نقصًا أم لتقوّم خللًا أم لتجدّد وعيًا؟
- "قدر" الحاجة = المستوى الذي يحتاج صاحبه لبلوغه في رحلة التعلم، وحاجة كل متعلم تختلف بحسبه، فمستوى علوم الاضطرار مثلًا يحتاجه كل مسلم، أمّا مستوى التمكّن من مهارة ما أو التعمق في علم فيحتاجه صاحب المهنة أو التخصص، ومستوى التثقف يحتاجه كل أحد بصفة عامة، لكن ليس في كل مجال بالضرورة.
وتحديد "قدر" الحاجة يكون بسؤال نفسك: ما الذي تحتاج لتعلمه في المجال أو العلم الذي تُقبِل عليه؟ سواء كان الجواب يوافق تصنيفًا متعارفًا عليه، كالمستوى المبتدئ أو المتوسّط؛ أو لا يتّبع تصنيفًا، المهم أن يكون لدى المتعلم تقدير مبدئي لما يحتاج البدء بتعلمه، ثم البناء عليه بحسب توسّع حاجته لاحقًا إذا توسَّعَتْ.
"يا أخي! إن الجائع يحب الخبز، وإن العطشان يحب الماء، ولو جُعِل الخبز والماء بين أيديهما على مائدة أو عُلِّقا في أعناقهما، ما نفعهما علمهما بأنّ الخبز والماء معهما، ولا ينفعهما قربهما منهما دون أن يأكلا من الطعام ويشربا من الشراب! وهكذا أنت! لا ينفعك علمك بالخير ولا قُربه منك ولا حبّك له حتى يكون فيك وتكون من أهله، وإلا تكون مخدوعًا أو مخادعًا في دعواك أنك تحبه! يا أخي، هل رأيتَ عطشان استمكن من الماء البارد فلم يشربه إلا مُدَّعٍ للعطش ليس بعطشان؟! أو هل رأيتَ جوعان وجد طعامًا قد أمكنه فلم يأكله إلا مُدَّع للجوع ليس بجوعان؟!" [المحاسبي – "آداب النفوس"]
من كبرى آفات التعلم بعد التكاسل نفسية المتعلم ليعلم غيره قبل نفسه، في نوع العلوم التي تُطلب بالأساس لتقويم النفس وإصلاحها
3) صوغ نفسية المتعلم
لا بد من صوغ المتعلم وتهيئته لاستقبال العلم استقبالًا حيًّا، قبل إغراقه بموارد العلوم ومصادرها، فما الذي ينبغي تهيئته في المتعلم وكيف؟ إنّ النفسية الوحيدة التي تؤهّل المتعلم ليتعلم علمًا حيًا، هي نفسية المتعلم لنفسه، ومن كبرى آفات التعلم بعد التكاسل نفسية المتعلم ليعلم غيره قبل نفسه، في نوع العلوم التي تُطلب بالأساس لتقويم النفس وإصلاحها.
- الخطر الأول لنفسيّة المتعلم للغير هو زوغان بصره! لأنه ملتفت للبريق الاجتماعي والتفوق على الأقران والنجومية وسط الآخرين، فأنى يَجمَع شتات فكره على التمكن من قلب العلم وهو مشغول بتكويم أطرافه؟!
- ثم الخطر الثاني والمترتب على الأول: نفسية النَّهَم المعرفي، فيميل المتعلم لتكتيل المراجع وتجميع قوائم المصادر، ولا يكاد يصبر على إتمام مرجع، بل يتقافز بين العناوين ليَشُمّ – ولا أقول يَقطِف – من كلّ بستان زهرة، فيظن أنه بتجربة الروائح تَحَمَّم بِعِطْرها! والسُّعار المعرفي لا يُشبِع، بل يُورِث صاحبه العجلة وسرعة التململ، والمتعجل لا يفقه، ومن لم يفقه لم يتعلم، لأنّ العلم الحيّ ما وقر في الصدر، لا ما قُيِّد على السطر ثم طُوِيَ هناك!
- والخطر الثالث: استشعار المتعلم الضّمنيّ لعدم حاجته للعمل بما تعلم، بل اتخاذ تعليم الغير كلَّ عمله وغايته، وليس في التعليم إشكال لو أنّ المُعلّم لا يستثني نفسه مما يُعلِّم، وما من شيء يتعلمه المرء إلا وفيه إضافة ما لنفسه، وآفة التعليم والمعلمين الكبرى في عالمنا اليوم استغناؤهم عن تمثّل ما يُعلّمون، وبالتالي صرنا في حاجة للفصل والفصم في الغالب بين شخص المعلّم وما يعلّمه، فأنى يكون المعلم قدوة؟! وأنى يكون العلم المنقول علمًا صالحًا للأحياء إذا كان منقولًا ميّتًا؟!