من بين أهم الأسئلة التي يواجهها الإنسان في حياته، لماذا أنا هنا على هذه الأرض؟ وكيف جئت إلى هنا؟ ومَن الذي خلقني؟
هذه الأسئلة تُعد بندًا أساسيًّا في فلسفات الفلاسفة وكتابات المفكِّرين عبر التاريخ، وللتدليل على أهميتها فإنها أول ما كان يجيب عليه الوحي الإلهي عندما يرسل اللهُ تعالى إلى أحد عباده لكي يعمل على هداية وإصلاح عقيدة وأخلاق الناس.
وعندما كان أحد الأنبياء والمرسلين الذين بَعَث إليهم اللهُ تعالى، يُواجَه من قومه بأسئلة عن هذا الإله الذي يدعوهم إليه، ويدعوهم إلى الإسلام له، وإفراده بالعبادة، وإقامة عقيدة التوحيد على الأرض، فإنهم – أنبياءُ اللهِ تعالى ومُرسلوه – كانوا يعرِّفون اللهَ عزَّ وجلَّ كما في علم التوحيد، أنه هو الخالق الواحد المدبِّر لهذا الكَون، الرحمن الرحيم، وغير ذلك مما اصطفاه اللهُ تبارك وتعالى لنفسه من أسماء وصفات.
وعلى نهج معين سار الخطاب العلمي للفقهاء والمفكرين المسلمين في القرون التي خَلَت بعد بعثة الرسول الكريم - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - في تعريف الإله الواحد، وكيف أنه ربٌّ وإلهٌ، وكيف أن له قوانين تحكم هذا الكَوْن لا فِكَاك لنا منها، وأن له شريعةً ارتضاها لنا ولعباده، فيها صلاحنا في الدين والدنيا.
إلا أن هناك جانبًا مُهمًّا قد يغفل الناس عنه في ربِّ العِزَّةِ سبحانه، وربما يُعد في نظر الكثيرين هو أحد أهم الجوانب التي يلتزم الإنسان فيها بجوار ربِّه الكريم في كل حياته، ولا يسعى لمرضاة غيره في هذه الحياة الصعبة الشاقة التي نحياها على كوكب الأرض.
إنه ذلك الجانب الذي يكون فيه ربُّ العِزَّةِ -سبحانه وتعالى- وهو خالقُ السماواتِ والأرضِ، وجَبَّارُهما، إلى جوار عبده في ملمَّاته، يطمئنه ويواسيه، تلك اللحظات التي يكون فيها اللهُ تعالى الودود، الحَنَّان المنَّان، تلك اللحظات التي يستجيب فيها لعباده، هذا الجانب هو الذي يجيب على السؤال الأهم: لماذا الله.
تلك اللحظات التي يصدقُ فيها قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وقوله عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سَبَأ: 50]
وقال بعض المُفَسِّرين في الآية الأولى (آية البقرة): إنها الآية الوحيدة في القرآن الكريم التي خاطب فيها اللهُ - عزَّ وجلَّ - رسولَه الكريم - عليه الصلاة والسلام - بصيغة "الشرط/ جواب الشرط"، من دون كلمة "فقُل" المعتادة في مثل هذه الحالات، وإنما قال مباشرة بعد الشطر الأول من جُمْلة الشرط، "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي": "فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ"
وقالوا بأن هذا الاستثناء يفيد السرعة والقُرْب، أي أنَّ اللهَ تعالى كأنما يقول لعبده إنه أقرب له مما يظن، حتى من حبل الوريد.
وهذا الأمر هو حرفيًّا هو أعظم ما يتصف به اللهِ تعالى، وكل صفاته وأسمائه عظيمة، فقد وَرَد أن النبِي - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - مرَّ بأبي عيَّاش زيد بن الصامت - رَضِيَ اللهُ عنه - وهو يصلِّي، وسَمِعَه يقول في صلاته: "الَّلهمَّ إني أسألك بأن لكَ الحمد لا إله إلا أنت يا حنَّان يا منَّان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام"، فقال الرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "لقد دعا اللهَ باسمه الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجابَ وإذا سُئِلَ به أعطى" [رواه أنس وأخرجه الألباني في صحيح الترمذي]
ولو أننا تأمَّلنا سُورَة الشَّرح، وهي بالكامل سُورَةٌ جَميلةٌ - وكل القرآن جَميلٌ وعظيمٌ - في تبيان ذلك؛ فهي تحفل بالكثير من المعاني للخطاب الإلهي اللطيف الباعث على الأمل للإنسان.
الرَّبُّ الذي خلق كلِّ هذا الملكوت، مما نعلم ولا نعلم مِن خَلْقِه، وخضعت له السماوات والأرضِ، وما نعلم وما لا نعلم مِن خلقِه، يخاطِبُ عبده بلطٌفٍ، ويعمل على تهدئة خواطره، ويبذلُ له الحديثَ الذي يلمَسَ بواقعيتِهِ وبساطةِ منطقِه العقلَ والنَّفسَ، ويمدد له سُبُلَ الرَّشاد
نرى في هذه السُّورَةِ إلهًا كريمًا ورَبًّا عظيمًا بكل معنى الكلمة، وما هو أكبر من معنى الكلمة؛ فهذا الرَّبُّ الذي خلق كلِّ هذا الملكوت، مما نعلم ولا نعلم مِن خَلْقِه، وخضعت له السماوات والأرضِ، وما نعلم وما لا نعلم مِن خلقِه، يخاطِبُ عبده بلطٌفٍ، ويعمل على تهدئة خواطره، ويبذلُ له الحديثَ الذي يلمَسَ بواقعيتِهِ وبساطةِ منطقِه العقلَ والنَّفسَ، ويمدد له سُبُلَ الرَّشاد.
ملخَّص السُّورَة – ولستُ بأحسنِ مَن يفسِّرُ القرآن الكريم، لكنها خواطر حول الآيات ومعانيها – نقول إن ملخَّص السُّورَة: أن الله تعالى يقول لرسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا محمد "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ"؟!، "وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ"؟!، "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ"؟!.. إذًا ثِق أنَّه "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" بكل تأكيدٍ "إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا".
ثم يقول اللهُ تعالى لنبيِّه إن كل ما عليك – يا محمد – هو أنه إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها؛ فَجِدَّ في العبادة، وإلى ربك وحده، وارغب فيما عنده "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ".
من الدروس المهمة المستفادة من هذه السُّورَة، أنه عندما تأتيك المَلمَّات والكروب فتذكَّر نِعَمَ اللهِ تعالى عليكَ، ولِتَسْعَ إليه بدلًا مِن سَعيكَ للدنيا، وارغب إليه؛ ففي يده مفاتيح كل شيءٍ
وبجانب هذه الإشارات الربانية العظيمة لنا، أنه برغم كونه خالق هذا الكَوْن، وله العزة والجلال والكبرياء، إلا أنه معنا، وبجوارنا، أعلم بحالنا وبضعفنا، وألطَفُ بنا منَّا، فإنه من الدروس المهمة المستفادة من هذه السُّورَة، أنه عندما تأتيك المَلمَّات والكروب فتذكَّر نِعَمَ اللهِ تعالى عليكَ، ولِتَسْعَ إليه بدلًا مِن سَعيكَ للدنيا، وارغب إليه؛ ففي يده مفاتيح كل شيءٍ.
هذه السمات وما يرتبط بها من أسماء وصفات لله عزَّ وجلَّ، مع أخرى ذات صلةٍ مثل "الرحمن" و"الرحيم" و"القيوم" و"الغفور"، ربما هي أكثر ما يدفع الإنسان طواعيةً إلى أن يؤمن تمامًا بأنه لا معبودَ بحقٍّ إلَّا اللهَ، وأنه ليس كما يقول البعض الإله الأجدرُ بالعبادة، بل إنه لا إله إلا هو؛ فإن الإله هي صفةٌ أو مسمَّىً جامعٌ لصفاتٍ وسِمَاتٍ وأسماء، لا نقفُ عليها إلا في اللهِ تبارك وتعالى، فالحمد لله على نعمةِ الإيمان به، وشَرِفِ الإسلام له.