عندما يشتد الوطيس فلا تثبت أمامه قوة، ويحتدِم الصِّراع فلا تُجدي معه شجاعة، وتهب الرياح العاتية فلا يقف أمامها شِرَاع، وينتفش الباطل حتى يظن الجميع أنه منتصر لا مَحالة، حينها ترتجف القلوب وتذهل العقول وتزيغ الأبصار وتخور القوى ويتفق الجميع على سؤال واحد، ألا وهو: ما العلاج! وما الحل!
قال تعالى: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11]
إن من يبحث في كتاب الله تعالى عن علاج أو حل لهذا الحال سيجد أن الله تعالى قد قدَّم لنا العلاج الناجع والحل النافع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45 - 46]
إن من يتدبر هذا الحل القرآني يجد أن به خمسة أشياء لا غنى عنها مُجتمعة، وهي:
1- الثبات على الحق وعدم الانشغال إلا بسبيل التمكين له.
2- ذكر الله سبحانه وتعالى ذكرًا كثيرًا ينزع الدنيا من القلوب ويقطع وساوس الشيطان ويحقق الفوز والفلاح.
3- طاعة الله ورسوله في الأمور عامة وفيما يخص الصِّراع خاصة.
4- اتفاق الكلمة وعدم التنازع ونبذ الخلاف تجنبًا للفشل والوهن، ثم تجنبًا لشماتة الأعداء.
5- الصبر الذي هو مَلاك ذلك كله وقوامه وأساسه.
ارتم في أحضان من معك على الطريق ولا تكن نغمة نشاز تعكِّر الصفو وتشق الصف، تعلم من عالِمهم وعاون ضعيفهم وتفقد غائبهم واخلُف المُبتلى منهم، وخذ من راحتك لراحتهم ومن زادك لزادهم
إن تحقيق كل ما سبق يتطلب منا عقولًا واعية، وآذانًا مُصغية، وجوارح خاشعة تترجم ذلك كله إلى واقع ملموس، فيدحر الله بنا أعداءنا ويُغيِّر أحوالنا ويُمكِّن لديننا فنفوز فوزًا عظيمًا.
ولن يكون ذلك إلا بما يلي:
1- استشعار نِيَّة الثبات، وهذا لا يتحقق إلا بوقفة صادقة مع النفس وحُسن لجوء إلى الله تعالى.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147]
2- استرجاع سيرة من ثبتوا على طريق الحق ودراسة عوامل ثباتهم والاقتداء بهم، وهم كثير.
قال تعالى: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72]
3- استرجاع سيرة من تنكَّبوا طريق الحق ودراسة عوامل سقوطهم والحذر من حالهم والاستعاذة من مآلهم، وهم كثير.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ...} [آل عمران: 155]
4- استشعار الفرد أنَّ النصر سيكون به وحده، والثواب سيكون له وحده، وهو أحوج ما يكون إلى هذا الثواب.
يقول الإمام الأوزاعي: "كان يُقال: ما من مُسلم إلا وهو قائم على ثغرة من ثغُر الإسلام فمن استطاع ألا يُؤتى الإسلام من ثغرته فليفعل" [كتاب السنة للمروزي]
5- الحرص على العمل في جماعة والالتزام بضوابط العمل الجماعي.
ارتم في أحضان من معك على الطريق ولا تكن نغمة نشاز تعكِّر الصفو وتشق الصف، تعلم من عالِمهم وعاون ضعيفهم وتفقد غائبهم واخلُف المُبتلى منهم، وخذ من راحتك لراحتهم ومن زادك لزادهم، تشعر بطعم اللقمة وهي في أفواههم وتسعد بالسعادة التي في قلوبهم.
قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]
وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103]
6- لا تهجر عموم المسلمين ولا تمل من إزالة الغشاوة عن أعينهم ولا تيأس من إصلاحهم، تودد إليهم وأحسِن معاملتهم واصبر على أذاهم.
قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "المؤمنُ الَّذي يخالطُ النَّاسَ ويصبرُ على أذاهم أعظمُ أجرًا منَ المؤمنِ الَّذي لاَ يخالطُ النَّاسَ ولاَ يصبرُ على أذاهم" [صحيح ابن ماجه] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "إذا قالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهو أهْلَكُهُمْ" [صحيح مسلم]
الابتلاء لن ينتهي والظلم لا ينتهي بهلاك ظالم، وهذه هي سنة الله تعالى في الدعوات إلى يوم القيامة
7- كن دائمًا مُتفائلًا مُحسنًا الظن بالله تعالى، وضع في ذهنك أن المجتمع به دُرر ولآليء تريد من يزيل عنها التراب، ومن يأخذ بيدها، ويبث فيها الأمل والطمأنينة لكي تكون من عُمُد الدعوة وأركانها الركينة، والسعيد كل السعادة من يوفقه الله تعالى فيجعله سببًا في هداية أحدهم.
عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "فَواللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ" [صحيح البخاري]
لقد كان النبي ﷺ يدعو ويقول: "اللَّهمَّ أعِزَّ الدِّينَ بأحَبِّ هذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إليكَ: بأبي جهلِ بنِ هشامٍ أو عُمَرَ بنِ الخطَّابِ" [تخريج صحيح ابن حبان]، بينما قال عامِرُ بنُ رَبيعةَ - رضي الله عنه - لزوجته ليلى حين أثنت على عمر بن الخطاب خيرًا: "واللهِ لا يُسلِمُ حتى يُسلِمَ حِمارُ الخطَّابِ" [مجمع الزوائد بإسناد صحيح]
ويكفيك أن تعلم أن (وحشي) الذي قتل سيد الشهداء حمزة، أسلم وحَسُنَ إسلامه، وهو الذي قتل مُسيلمة الكذاب في معركة اليمامة.
8- كن على يقين أن كل ما يُقابل دعوة الإسلام الآن من فتن وصراعات زائل لا محالة، ولقد مرَّ على الإسلام معارك أكثر ضراوة وأشد شراسة، وخرج منها أصلب وأقوى من ذي قبل.
قال الخطيب الإدريسي: "إنّ الإسلام إذا حاربوه اشتد، وإذا تركوه امتد، والله بالمرصآد لمن يصد، وهو غني عمَّن يرتد، وبأسه عن المجرمين لا يُرد، وإن كان العدو قد أعدَّ فإنّ الله لا يُعجزه أحد، فجدِّد الإيمان جدِّد، ووحِّد الله وحِّد، وسدِّد الصفوف سدِّد"
9- ثق أن الابتلاء لن ينتهي وأن الظلم لا ينتهي بهلاك ظالم، وهذه هي سنة الله تعالى في الدعوات إلى يوم القيامة.
قال تعالى: "الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 : 3] وقال تعالى: {... وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]
إننا حين نفهم ذلك نحرص كل الحرص على أن نأخذ من كل ابتلاء زادًا لنربي به أنفسنا ولتتربى عليه الأجيال التي تلينا.
تعهَّد أسرتك والمحيطين بك بغرس القيم، وتصحيح الأخطاء، وإزالة الشبهات التي تُلقى في طريقهم، واعلم أن أسرتك هي حصنك المُستهدف من قبل أعدائك
10- إياك ثم إياك أن تركن لدعاوى المُثبطين وأقاويل المُرجفين، فِر منهم فرارك من الأسد فهم ذئاب تتربص بالعاملين وتحاول تثبيطهم وتخذيلهم.
سيقولون: "لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ"، وسيقولون: "لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا"، وسيقولون: "لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ"، وسيقولون "مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا" وغير ذلك من العبارات التى توهن العزم وتشق الصف شقًا.
11- اعلم أن من حِيَل المُثبطين والمُرجفين المبالغة في بث الأمل لكي تزهق الأنفس شوقًا وانتظارًا، فهم سَحرة فرعون الذين يُجيدون كل الفنون ويعزفون على كل الأوتار حتى يصلوا لمُبتغاهم.
12- احرص على الانطلاق من قاعدة قوية، فبناؤك لنفسك وحدها لا يكفي فيلزمك التأكد من قوة البناء الداخلي (أسرتك والمحيطين بك)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، وقال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]
احرص على ذلك وخذ بكل أسباب النجاح فيه، تعهَّد أسرتك والمحيطين بك بغرس القيم، وتصحيح الأخطاء، وإزالة الشبهات التي تُلقى في طريقهم، واعلم أن أسرتك هي حصنك المُستهدف من قبل أعدائك ليقين هؤلاء الأعداء أن هذه القاعدة هي التي تقوِّي عزيمتك وتشد من أزرك، وأنهم لو نجحوا في اختراقها وتفخيخها سيخر عليك بنيانك هدًّا.
13- كن على يقين بأن الله تعالى يغار على الدماء التي تُراق والأنفس التي تُزهق والحُرمات والأعراض التي تنتهك والحقوق التي تُسلب أكثر من غيرتنا نحن، ولكن الله تعالى يُمهل الظالم حتى يستنفد كل ما لديه من ظلم وحتى يستنفد كل ما بداخله من خير، وحتى يستنفد أهل الحق كل ما لديهم من جهد، حينها تأتي الساعة الفاصلة ويتنزل المدد ويأذن الله تعالى بالفرج.
قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 4 : 6]
اعلم أن الله تعالى لا يعجل بعجلة أحدنا، واجعل كل غايتك هي أن تُستعمل ولا تُستبدل وأن تُقبض روحك وأنت سائر على طريق ربك
14- لا تغتر ولا تنخدع بانتفاش الباطل فإنه يحمل بداخله عوامل هلاكه، تذكر حال أبو جهل في غزوة بدر حين قال: "والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم عليها ثلاثًا، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القِيَان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها فامضوا"، فكانت النتيجة أن جيش المشركين هُزم هزيمة مُنكرة وكان مصير أبو جهل مع النتنى الذين ألقي بهم في القليب.
15- لا تتعجل ساعة النصر واعلم أن الله تعالى لا يعجل بعجلة أحدنا، واجعل كل غايتك هي أن تُستعمل ولا تُستبدل وأن تُقبض روحك وأنت سائر على طريق ربك.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]
أخيرًا أقول..
بكل ما سبق من نصائح وبغيرها يتحقق الوعي، وتُصحح المفاهيم، وتتضح معالم الطريق، وتتحقق الآمال، ويُضاعف الأجر بإذن الله تعالى، {... وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 4 : 6]