علمتنا التفاعلات الكيميائية والفيزيائية أنه ما من مادة تختلط بأخرى إلا نتج عن هذا الاختلاط مادة مُختلفة تمامًا، أو على الأقل ينتج عن هذا الاختلاط بين المواد اختلافٌ في خصائص كل مادة، وهكذا الحال يحدث عندما يكون هناك اختلاط غير مُنضبط بين الرجال والنساء في مجالات الحياة المختلفة.
إن الاختلاط الأهوج ينتج عنه رجلٌ مُخنث قد انعدمت رجولته، وامرأة مُترجلة قد ضاعت أنوثتها، وعلاقات تنافي الشرع وتصرفات ينبذها العُرف، وغير ذلك مما يندى له الجبين وتلفظه الفطرة السوية لفظ النواة!
من هنا يمكننا أن نقول إن:
1. الاختلاط يُنكِّس الفطرة، ويطمس الهوية، ويهوي بمن يتعامل بعفوية وسذاجة في هذا الجانب إلى هُوَّة سحيقة يترنح فيها ويتخبط كالذي استهوته الشياطين من المس، وكالسكران الذي لا يريد أن يفيق من سكرته، أعاذنا الله جميعًا من سوء الحال وسوء المآل.
ولقد بلغ حد التحذير من الاختلاط إلى أن الإمام الشافعي - رحمه الله - قال في كتابه (الأم): "وَلَا أُحِبُّ أَنْ تُدْفَنَ الْمَرْأَةُ مَعَ الرَّجُلِ عَلَى حَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ ضَرُورَةٌ، وَلَا سَبِيلَ إلَى غَيْرِهَا كَانَ الرَّجُلُ أَمَامَهَا، وَهِيَ خَلْفَهُ، وَيُجْعَلُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْقَبْرِ حَاجِزٌ مِنْ تُرَابٍ"
الاختلاط الذي تعارف عليه الناس هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد يمكنهم منه الاتصال فيما بينهم بالنظر والإشارة أو الكلام أو البدن من غير حائل أو مانع يدفع الريبة
إن الشرع عندما نهانا عن الاختلاط فإنما كان ذلك سدًا للذرائع، ودرءًا للفتنة، وحفظًا للأعراض، وتجنبًا لخدش الحياء، وبُعدًا عن خوارم المروءة، وحرصًا على تماسك الأسرة وتماسكًا لنسيج المجتمع ولُحمته، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "مَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يخلوَنَّ بامرأةٍ ليسَ معها ذو مَحرَمٍ منها، فإنَّ ثالثَهما الشَّيطانُ" [أخرجه أحمد]
ولكي نبرهن على عظمة الإسلام عندما نهانا عن الاختلاط وحذرنا منه ننقل ما قالته الصحفية الأمريكية (هيليان ستانبري) فقد قالت: "امنعوا الاختلاط، وقيّدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومُجون أوروبا وأميركا، امنعوا الاختلاط، فقد عانينا منه في أميركا الكثير، لقد أصبح المجتمع الأميركي مجتمعًا معقدًا، مليئًا بكل صور الإباحية والخلاعة، وإن ضحايا الاختلاط والحرية يملؤون السجون والأرصفة والبارات والبيوت السرية، إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا قد جعلت منهم عصابات أحداث، وعصابات للمخدرات والرقيق، إن الاختلاط والإباحية والحرية في المجتمع الأوروبي والأميركي قد هدد الأسرة، وزلزل القيم والأخلاق"
أولًا/ ثوابت يجب مراعاتها في أماكن الاختلاط
الاختلاط الذي تعارف عليه الناس هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد يمكنهم منه الاتصال فيما بينهم بالنظر والإشارة أو الكلام أو البدن من غير حائل أو مانع يدفع الريبة، ويزداد الضرر من الاختلاط كلما طالت مدته وكثر تكراره.
وبعد هذا التعريف للاختلاط وجب علينا أن نقول خاطئ من يزعم أن آفة الاختلاط الذي نحذر منه قاصرة على الاختلاط بين شاب وفتاة أو بين رجل وامرأة، فقد يكون اختلاط فتاة بأخرى أو امرأة بأخرى أكثر خطرًا وأشد فتكًا؛ فالأخلاق الفاسدة مُعدية خاصة إذا توفرت السذاجة وحُسن النية والتبعية العمياء.
الواقع يقول إن أماكن الاختلاط في حياتنا قد تعددت، اختلاط في المدارس والجامعات، اختلاط في الأسواق والمواصلات، اختلاط في الحفلات والأفراح، اختلاط المحارم، وقد اتسعت رقعة ظاهرة الاختلاط لتشمل المآتم والجنازات، والأدهى والأمر من كل ذلك هو الاختلاط في منصات الفضاء الأزرق والمواقع الإلكترونية، ويخرج من الاختلاط المذموم ما يصعب التحرز منه مثل: الحج والعمرة وحالات الاضطرار كإسعاف لغريق ونحوه أو مداواة لمريض عند فقدان المماثل من نفس الجنس أو الإدلاء بالشهادة أمام القضاء.
أول خطوة من خطوات الشيطان في شأن الاختلاط هي (النظرة) لذلك حذرنا الله تعالى منها
ولكي نقِي أنفسنا ويلات هذه الظاهرة لا بد أن نلتزم بعدة ثوابت، نضعها صوب أعيننا ولا نحيد عنها قيد أنملة، ومن بين هذه الثوابت:
1. استحضار نية المُراقبة والإكثار من ترديد مقولة "الله معي الله ناظري الله مُطلع عليَّ" بلسان الحال قبل لسان المقال.
يقول الحارث المحاسبي: والمراقبة في ثلاثة أشياء: مراقبة الله في طاعته بالعمل، ومراقبة الله في معصيته بالترك، ومراقبة الله في الهم والخواطر؛ لقول النبي ﷺ: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"
2. اعلم أن مُعظم النار من مُستصغر الشرر فلا تتهاون في اقتحام عالم الاختلاط ولا تتهاون في ذلك مع من تعول إذا أقدموا عليه فدوَّامته لا يفلت منها أحد!
حُكِيَ عَن بَعْضِ العارِفينَ أنَّهُ كان يمشي في الوَحْلِ جَامِعًا ثيابه مُحترزًا عن زلقة رجليه ومع ذلك فقد زلقت رجله وسقط واتسخت ثيابه فقام يمشي وسط الوحل ويبكي ويقول: "هذا مثل العبد لا يزال يتوقَّى الذنوب ويجانبها حتى يقع في ذنب أو ذنبين فعندها يخوض في الذنوب جميعًا"
قال الشاعر العباسي ابن المعتز:
خَلِّ الذُنوبَ صَغيرَها :: وَكَبيرَها فَهوَ التُقى
واصنع كماشٍ فَوقَ أَرضِ :: الشَوكِ يَحذُرُ ما يَرى
لا تَحقِرَنَّ صَغيرَةً :: إِنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى
3. اعلم أنه عندما حذرنا الله تعالى من الشيطان لم يقل "لا تتبعوا الشيطان" ولكنه - سبحانه وتعالى - قال: {لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21]، فالشيطان يبدأ بالصغائر قبل الكبائر، ويُوسوس بالمعصيية ويُزينها ويُسهِّل طرق الوصول إليها إلى أن تزل القدم في مستنقع الرذيلة والعياذ بالله.
4. إن أول خطوة من خطوات الشيطان في شأن الاختلاط هي (النظرة) لذلك حذرنا الله تعالى فقال: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]، وعن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أن النبيِّ ﷺ قال: "إنَّ اللَّهَ كَتَبَ علَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أدْرَكَ ذلكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، والنَّفْسُ تَمَنَّى وتَشْتَهِي، والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلكَ أوْ يُكَذِّبُهُ" [صحيح البخاري]، وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبيِّ ﷺ قال عن ربه عز وجل: "إِنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ، مَنْ تَرَكَهَا من مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ" [رواه الطبراني والحاكم]، قال الإمام القرطبي: "البصر هو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله"
العلاقات لها ضوابطها التي تهذبها وتبعدها عن الترخص والوقوع في الشبهات، والمُوفق من يفهم ذلك جيدًا ويغلق هذا الباب ولا يضع له المبررات
5. ليس هناك ما يُسمى (صداقة) بين شاب وفتاة ولا بين رجل وامرأة، وكذلك لا يوجد ما يُسمى (حُسن النية) ولا غير ذلك من الأمور التي تفتح مداخل الشيطان، فالعلاقات لها ضوابطها التي تهذبها وتبعدها عن الترخص والوقوع في الشبهات، والمُوفق من يفهم ذلك جيدًا ويغلق هذا الباب ولا يضع له المبررات.
6. على كل مسلم أن يخشى الله تعالى ويتقه وأن يضع نصب عينيه عبارة "أتحبُّه لأُمِّكَ؟"، "أتحبُّه لابنتِك؟"، "أتحبُّه لأختِك؟"، "أتحبُّه لعمتك؟"، "أتحبُّه لخالتك؟" فمن كانت إجابته بـ "نعم" أو تساهل وجادل وبرَّر في مسألة الاختلاط فاعلم أن هذا الفرد ديوث لا يغار على عرضه وأنه سيغوص في وحل الفواحش والمنكرات حتى أذنيه، وإن انتفض وقال "لا" قولًا واحدًا وقاطعًا فاعلم أنه تقي ورع أمين.
7. ثق أن الحرام يبقى حرامًا ولو كان الجميع يفعله فلا تتنازل عن مبادئك ولا تشبع شهوتك بتمزيق دينك فمن يفعل ذلك - والعياذ بالله - مثل من يشرب من البحر المالح، لن يرتوي أبدًا!
8. اعلم أن الله تعالى قد أمرنا بقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]، ولم يقل: "كما رغبت" أو "كما أردت" أو "كما تقتضي الأعراف والتقاليد" فاجعل الشرع هو مرجعيتك التي تستقي منها تصرفاتك وأفعالك، ولا تستقي تصرفاتك وأفعالك من العُرف الخاطيء ولا من السلوكيات المعوجة!
9. لا تضع نفسك موضع شبهة ولا شك ولا ريبة "فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه، ومن وقع في الشُّبهاتِ وقع في الحرامِ" [أخرجه البخاري ومسلم]
10. اجتنب كل ما من شأنه لفت الأنظار وإثارة الشهوات (في الكلام وفي الملابس وفي التصرفات)؛ خوفًا من الله تعالى وابتغاء مرضاته.
تلك عشرة كاملة بها وبغيرها يُحلِّق المؤمن في أفق انشراح الصدر وراحة الضمير مُستبشرًا بأنه في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله؛ لأنه (نشأ في طاعة الله) ولأنه قال (إني أخاف الله)، ويعين على ذلك كله الصحبة الصالحة التي إذا ذكرت الله أعانتك وإذا نسيت أو غفلت ذكَّرتك.
المرأة تخرج متبرجة بكامل زينتها ولسان حالها يقول لكل من تقع عينه عليها "هَيْتَ لَكَ" أو "هئت لك" ولا مناص للشباب ولا للرجال إلا بالتأسي بنبي الله يوسف - عليه السلام - حين قال: "مَعَاذَ اللَّهِ"
ثانيًا/ نصيحة واجبة
إن الاختلاط قد بلغ في عصرنا مداه للحد الذي تجد فيه الفتاة أو المرأة تخرج متبرجة بكامل زينتها ولسان حالها يقول لكل من تقع عينه عليها "هَيْتَ لَكَ" أو "هئت لك" ولا مناص للشباب ولا للرجال إلا بالتأسي بنبي الله يوسف - عليه السلام - حين قال: "مَعَاذَ اللَّهِ"
لذلك فإن نصيحتي لكل مسلم يريد أن يحتاط لأمره وأن يأخذ بأسباب الأمن من ويلات الاختلاط أن يحفظ عني هذه اللاءات العشر وأن يضعها موضع الاعتبار دون التنازل عن إحداها، وهي:
1. لا تتعامل مع امرأة أجنبية عنك إلا بدافع شرعي ضروري.
2. لا تقبل بوجهك على من تحدثها.
3. لا تقف على مسافة يُقال إنها قريبة ممن تحدثها.
4. لا تقف متواريًا عن أعين الناس.
5. لا ترفع البصر.
6. لا ترفع الألقاب.
7. لا ترفع التكليف.
8. لا تتكلم مع إحداهن ولا تتصل بإحداهن في وقت متأخر يُثير الريبة.
9. لا تتكلم بكلام فيه تورية ولا كناية فيُفهم على غير المقصد.
10. لا تمزح ولا تسترسل بكلام فوق الضرورة والحاجة.
وإذا شعرت بأن هناك حلقة ستفقد أو ستختل عن مكانها من هذه "اللاءات" العشر انصرف على الفور ولا تسترسل في الحديث.
تجنب الاختلاط - الذي هو أوسع مداخل الشيطان إلى الفتنة - من شيم الكرام ومن الأمور التي لا يقدر عليها إلا أصحاب العزائم
أخيرًا أقول:
إن تجنب الاختلاط - الذي هو أوسع مداخل الشيطان إلى الفتنة - من شيم الكرام ومن الأمور التي لا يقدر عليها إلا أصحاب العزائم، ويكفينا أن نعلم أن من يترفع عن هذه الدنايا يستعلي على النفس الأمارة بالسوء، وينقذ نفسه من ذل المعصية وشؤمها، ومن الخزي في الدنيا والآخرة؛ كما أنه يحظى بمحبة الله تعالى فيُنير الله قلبه، ويرزقه البصيرة التي تجلب له الفراسة والحكمة، ويُزكِّي نفسه ويُطهرها من أوحال الرذيلة.
وأقول:
إن الاختلاط إذا لم يجد قلبًا يُراقب وعقلًا يُوجِّه وضميرًا يُحاسب وجوارح توقن بأن الله تعالى أقرب للإنسان من حبل الوريد؛ يكون سببًا في أن تنتكس الفطرة، وتضيع الأمانة، وتعم الفاحشة، ويحل غضب الله وعقابه.
الله أسأل أن يحفظ جوارحنا، وأن يُجنبنا الزلل، وأن يعصمنا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن.