عندما أمر الله الخليل إبراهيم عليه السلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] قال: يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ.
وإني على قلة حيلتي وضعف قوتي، لم أفقد رجائي في أن يبلغ الله ندائي الخافت جموعَ أمتي، بكلمة تتصل بالحق والخير، لها من قوانين الله في خلقه سند، فعسى أن تحظى من واسع فضله بالمدد.
رسالتي إلى بني جلدتي، إلى أبناء أمتي، شبابا وشيوخا، رجالا ونساء، أخاطبهم بإخواني وأخواتي، بتلك الصلة الأبدية من وشيجة العقيدة، تلك التي لا قوام لنا إلا بها، ولا عزة لنا إلا بها.
ما بالُ أقوامٍ جمعتهم كلمةُ الله، فأبوا إلا فرقةً واختلافًا وتناحرًا؟ يناديهم ربهم: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92]، ويأبون إلا الرضوخ لتقسيمات سايكس بيكو، والشقاق تحت رايات الجغرافيا والحدود.
القلب ينزف عندما ترى الأعين هذا التراشق بين الشعوب العربية التي أظلها الإسلام منذ 14 قرنًا من الزمان، يُعيّر بعضهم بعضًا بحوادث الدهر، فهذا يغيظ أخاه بمنّة سابقة، والآخر يغيظه بمنّة حالية، هذا يمسك بمنقصة في بلد هذا، وآخر يرد عليه بمنقصة تقابلها في بلاده، فضلًا عن منطق التعميم الذي صار آفة عصرنا ومجتمعاتنا، فغدت الفكرة تتكون عن شعب بأسره بسبب سلوك فوضوي بدَر من بعض سكانه وقاطنيه.
في صدر الإسلام عاش القرشي والرومي والفارسي والحبشي تحت مسمى واحد وراية واحدة: المسلمين والإسلام
كيف وصلنا إلى هذه الدرجة المقيتة من الكراهية والشقاق والتناحر؟ كيف لم نتّعظ من أحوالنا المتردية وأزماتنا المتتابعة ومصائبنا التي لا تنتهي فنسعى إلى التكاتف والتآزر لمواجهة هذه الصعاب معًا على قلب رجل واحد!
من علّمكم هذه النعرات يا بني قومي، كنتم أذلة فأعزكم الله، كنت عالة فأغناكم الله، كنتم شراذم فجمعتكم كلمة الله على كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي صدر الإسلام عاش القرشي والرومي والفارسي والحبشي تحت مسمى واحد وراية واحدة: المسلمين والإسلام.
لم تزل بنا أنفسنا الضعيفة حتى انتقصنا من وحدتنا، ورفعنا راية العروبة، ووالينا وعادينا عليها، وأصبح منطقنا “عرب وعجم”، وأقصينا إخوة لنا في شتى بقاع الأرض وسعتنا معهم مظلة الإسلام، لكننا على الرغم من هذا أبينا إلا أن نتجزأ، فما راعينا ما تجزّأ، وانحسر كل بنو أرض في أرضهم، وصارت رايات شتى: سعودي، كويتي، مصري، عماني، عراقي، يمني، سوري، جزائري، مغربي...
وحتى هذه لم نلتزم فيها بحسن الجوار، فصرنا يعادي بعضنا بعضًا، ويشاقق بعضنا بعضًا، في وقت تتكتّل فيه الأمم، وتدمج عُملاتها ورقعتها وقوتها.
نتناحر على هذا النحو البغيض، ثم نتساءل عن نفرة الناس عن منهاجنا، نحن المسؤولون، نحن نتحمل التبعة، نحن من يقدم هذه الصورة المغلوطة عن منهجنا، قد قالها العلامة رشيد رضا منذ قرن من الزمان: “أخطر وأهم أسباب عدم استجابة الآخرين لمعطيات شريعتنا، هو أوضاعنا الداخلية فى أنحاء العالم الإسلامى الذي عانى من التمزق والعجز والتخلف، بينما جوهر الإسلام وصريح القرآن يدعوان إلى الوحدة...”
لقد جاءتنا النبوءة في يوم الخلاص من أعداء الأمة، يوم يختبئون وراء الشجر والحجر، فينطق الحجر والشجر دالّا عليهم، ينادينا، نعم ينادينا، ولكن بأي لقب، وبأية هوية، وبأي نسب، لن يقول: يا عربي، لن يقول يا تونسي، لن يقول يا أردني، لن يقول يا فلسطيني، فقط سيقول: “يا مسلم، يا عبد الله”.
الأنظمة فرطت في جمعنا على كلمة سواء، كل حزب بما لديهم فرحون، لكن منذ متى ساروا إلا بوادٍ غير وادينا، تحجبهم السياسة والمصالح الضيقة والعروش والتبعية عن تحقيق حلم الوحدة
وإنها لإشارة يعيها كل ذي لُب، بأنه لا سبيل إلا بوحدةٍ على عبودية الله ودينه الذي ارتضاه.
وإني لطالما قلت وأكرر: الأنظمة فرطت في جمعنا على كلمة سواء، كل حزب بما لديهم فرحون، لكن منذ متى ساروا إلا بوادٍ غير وادينا، تحجبهم السياسة والمصالح الضيقة والعروش والتبعية عن تحقيق حلم الوحدة، أما نحن، فمن ذا يستطيع أن يحجبنا عنها ويحجبها عنّا؟ إنما نحن الذي وضعنا الحواجز، ونستسلم لوساوس التفريق، ونجعل أنفسنا أرضا خصبة لبذور الكراهية.
أفيقوا يا أبناء الأمة، قبل أن يبتلعكم الشقاق، فيقلّ الناصر، وينفر المعين، ويجد كل منا نفسه ينعي نفسه بيومِ أنْ أُكل الثور الأبيض، دعوا هذه الدعوات فإنها منتنة، هلموا إلى رايتكم الجامعة، إلى اسمكم المُوحّد وصفتكم الواحدة {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}
كتب ذات صلة بالموضوع
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- https://ehssanalfakeeh.com/?p=6688