مضرب تنس، علبة طعم لصيد السمك، فرن شواء، دُمية خشبية، كرة قدم، رغيفان من الفينو، قطعتا بطاطا، كلب، زرافة، ملابس غريبة، نظرات حادة، مصافحة فاترة... إلى غير ذلك من الهدايا الدبلوماسية ولغة الجسد المتبادلة بين رؤساء الدول التي تحمل رسائل، وإن شئت فقل شفرات، لا يفهمها إلا الطرفين!
إن تعامل قادة الدول مع بعضهم البعض يختلف تمامًا عن تعامل الأفراد مع بعضهم لذلك فإن الهدايا المتبادلة بين القادة ليست بقيمتها ولكن برمزيتها.
إن التصريحات السياسية والهدايا البروتوكولية ولغة الجسد بين قادة الدول من الأهمية بمكان للحد الذي جعل بعض جامعات أوروبا تخصص بعض المواد لدراسة الهدايا الدبلوماسية، باعتبارها شفرات رمزية تحلل العلاقات بين الدول بعضها البعض.
ويؤكد خبراء الاتصال على أن الحديث ينقل 30 % فقط من الرسالة المقصود إيصالها، فيما تتولى لغة الجسد نقل الـ70% المتبقية من الرسالة، كما يؤكدون على أن لغة الجسد تؤثر على العقل الباطن، الذى يؤثر بدوره على ما يتم اتخاذه من قرارات وردات أفعال.
يؤكد خبراء الاتصال على أن الحديث ينقل 30 % فقط من الرسالة المقصود إيصالها، فيما تتولى لغة الجسد نقل الـ70% المتبقية من الرسالة
أولًا/ هدية هارون الرشيد إلى شارلمان إمبراطور الدولة الرومانية
أرسل الخليفة العباسي هارون الرشيد ساعةً مائية إلى شارلمان إمبراطور الدولة الرومانية 768 - 814م، كانت هذه الساعة مصنوعة من النحاس الأصفر، بارتفاع أربعة أمتار وتتحرك بوساطة قوة مائية، وعند تمام كل ساعة تسقط منها عدة كرات معدنية، يتبع بعضها بعضًا بحسب عدد الساعات، فتحدث رنينًا جميلًا في القصر الإمبراطوري.
وكانت الساعة مُصمَّمة بطريقة مميزة، يفتح باب من الأبواب الاثني عشر المؤدية إلى داخل الساعة ويخرج منه فارس يدور حول الساعة، ثم يعود إلى المكان الذي خرج منه، وعندما تحين الساعة الثانية عشرة، يخرج اثنا عشر فارسًا مرة واحدة يدورون دورة كاملة، ثم يعودون من حيث خرجوا، وتُغلق الأبواب خلفهم.
أثارت الساعة دهشة الملك وحاشيته، واعتقد الرهبان بوجود شيطانٍ بداخل الساعة يسكنها ويُحركها، فجاء الرهبان إلى الساعة أثناء الليل، وحطموها بالفؤوس، إلا أنَّهم لم يجدوا الشيطان داخلها، وقد حزن الملك شارلمان واستدعى حشدًا من العلماء والصنَّاع المهرة لإصلاح الساعة وإعادة تشغيلها، لكنهم فشلوا في ذلك.
عرض بعض مُستشاري الملك عليه أن يخاطب الخليفة هارون الرشيد ليبعث فريقًا عربيًا لإصلاح الساعة، فقال شارلمان: "إنني أشعر بخجل شديد أن يعرف ملك بغداد أننا ارتكبنا عارًا باسم فرنسا كلها"
لم يجد الإمبراطور الروماني شارلمان مفرًا من مخاطبة الخليفة هارون الرشيد ليبعث فريقًا من المهندسين العرب لإصلاح الساعة، فأرسل هارون الرشيد ساعة ترابية، وهي عبارة عن ساعة مُدرَّجة بعدد ساعات اليوم، كلما انتهت ساعة، يخرج عصفور منها ويُغرد بعدد الساعات، أحب شارلمان تلك الساعة، واحتفظ بها في غرفته.
الهدايا البروتوكولية المتبادلة بين رؤساء الدول يكون لها لجان تشكل خصيصًا لهذا الغرض وهي التي تختار الهدية لرئيس الدولة بناء على طبيعة العلاقة بين الدولتين
المغزى من الهدية
إن المغزى من إرسال ساعة بهذا الحجم وهذه المواصفات تحمل رسالة قوية مفادها:
• أن العرب والمسلمين أكثر علمًا وأكثر تقدمًا من أوروبا.
• أن البون شاسع بين أوروبا وبين العرب والمسلمين.
• أن أوروبا لن تستطيع أن تلحق بركب حضارة العرب والمسلمين.
• أن شعاع العلم الذي يمتلكه العرب والمسلمون قد غزا أوروبا في عقر دارها.
وغير ذلك من الرسائل الدبلوماسية المُشفرة التي لا يفهما إلا المُرسِل والمُرسَل إليه.
ثانيًا/ نماذج للهدايا البروتوكولية المتبادلة بين رؤساء الدول
إن الهدايا البروتوكولية المتبادلة بين رؤساء الدول يكون لها لجان تشكل خصيصًا لهذا الغرض وهي التي تختار الهدية لرئيس الدولة بناء على طبيعة العلاقة بين الدولتين.
لقد ظلت الهدايا المتبادلة بين رؤساء الدول على مدار التاريخ تحمل رسائل خفية ودلالات مُشفرة، وتطرح لغة دبلوماسية مرنة تنجح في فِعل ما قد تعجز الكلمات عن التعبير عنه.
نسوق هنا نماذج للهدايا المتبادلة بين رؤساء الدول قديمًا وحديثًا، فربما ذكرها يختصر ما نود التأكيد عليه:
1- في بداية القرن التاسع عشر أهدى محمد علي باشا (والي مصر) زرافة لملك فرنسا، بالرغم من أن مصر ليست موطنًا للزرافات، إلا أنها كانت رسالة توحي بأن مصر في ذلك الوقت تهيمن على القارة الأفريقية.
2- في فبراير 2019م أهدى الرئيس الإثيوبي إلى رئيس النظام المصري صورة زيتية عبارة عن شلال مُتدفق يصب من هضبة الحبشة إلى نهر النيل وعلى يمين المياه المتدفقة تقف أهرامات الجيزة الثلاثة، وعلى اليسار تظهر "مسلة أكسيوم" الإثيوبية التي أنشئت عام 1709 قبل الميلاد.
إن ظهور الأهرامات وجها لوجه أمام المسلة الإثيوبية وبنفس الحجم (برغم اختلاف القيمة التاريخية لكل منهما، والحجم الفعلي)، جاء مُتعمدًا ليُوحِي بأن مصر ليست وحدها التي لها أصالة تاريخية ولكن أثيوبيا هي الأخرى لا تقل أصالة عن مصر، ومن المفترض أن تراعي مصر ذلك أثناء تعاملها مع أثيوبيا بشأن محادثات سد النهضة!
3- قدّم الملك المغربي هدية إلى الرئيس الأمريكي بوش الابن عبارة عن علبة بها (طُعم لصيد السمك) قدِّرت قيمتها بثلاثة دولارات، وقد وضعت علبة الطعم هذه في طبق لم تتعد قيمته ثلاثة دولارات، بالإضافة لخنجر مُرصع بالجواهر.
4- أهدى الرئيس الروسي بوتين البندقية الروسية الشهيرة "كلاشنكوف" إلى رئيس النظام المصري أثناء زيارة الأخير لموسكو عام 2014م. وكانت الرسالة واضحة وهي رغبة روسيا في أن يبادر النظام المصري بشراء السلاح الروسي بدلًا من شراءه من أوروبا والولايات المتحدة.
5- قدّم الرئيس التركي أردوغان هدية للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي كان الغرض منها تذكيره بفضل تركيا على بلاده، وكانت هدية أردوغان عبارة عن رسالة كتبها السلطان العثماني سليمان القانوني عام 1525م ردًا على رسالة استغاثة بعث بها فرنسيس الأول ملك فرنسا عندما وقع أسيرًا في يد الإسبان طالبًا العون من الدولة العثمانية.
جاءت هدية أردوغان على خلفية رفض الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن يؤدي زيارة رسمية لتركيا كرئيس لفرنسا، واختار أن يزورها كرئيس لمجموعة العشرين وألا تتجاوز مدة الزيارة ست ساعات، فانتهز أردوغان الفرصة ولقنه درسًا قاسيًا.
الهدايا الدبلوماسية للدول العربية تتميز بأنها الأكثر سخاءً والأغلى قيمة، خاصة إذا كانت مقدمة لأحد رؤساء الدول الكبرى
ثالثًا/ نماذج للهدايا الدبلوماسية لبعض الدول العربية
إن الهدايا الدبلوماسية للدول العربية تتميز بأنها الأكثر سخاءً والأغلى قيمة، خاصة إذا كانت مقدمة لأحد رؤساء الدول الكبرى، ومن نماذج ذلك:
1- أثناء توقيع اتفاقية السلام بين مصر والكيان الصهيوني عام 1978م، قدم الرئيس السادات هدية للرئيس الأمريكي كارتر عبارة عن قطعة أثرية فرعونية أصلية.
2- قدّم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود هدية ثمينة للرئيس الأمريكي أوباما، كانت عبارة عن تمثال من البرونز لحصانين مصنوعين يدويًا ومُرصَّعين بالأحجار الكريمة ومطليَّين بالذهب والفضة، إلى جانب مجموعة عصي للجولف، وقطعة فنية مرصعة تبين أهم السفن التي أبحرت في تاريخ البشرية.
3- قدّم أمير قطر (الشيخ تميم بن حمد) هدية إلى أوباما عبارة عن وعاء فضي تتوسطه خريطة قطر وبُعدها بالكيلومترات عن أهم عواصم العالم، كما قدم له عصفورًا ميكانيكيًا مطليًّا بالذهب قُدرت قيمته بـ 110 آلاف دولار، كل ذلك بالإضافة إلى مجموعة أطباق من الخزف مُرصعة بالذهب قيمتها 6900 دولار.
4- وأثناء مباحثات نقل ملكية جزيرتي "تيران وصنافير" للسعودية عام 2016م نشر موقع "ميدل إيست أوبزرفر" أن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، قدم هدايا للنظام المصري ونواب الشعب والوزراء والصحفيين والإعلاميين وجميع العاملين بالمؤسسة الرئاسية المصرية، كانت الهدايا عبارة عن "ساعات روليكس" تراوحت قيمة الساعة منها بين 1500 دولار إلى 300 ألف دولار، كل ذلك بالإضافة إلى تأشيرات الحج التي حصل عليها النواب وغيرهم.
وعلى نفس المنوال تكون هدايا بقية الدول العربية لرؤساء الدول الكبرى وغيرهم مما يدل على أن الدول العربية لا تسير بالمنهجية المُتعارف عليها في هذا الشأن، وأن شغلهم الشاغل هو استرضاء رؤساء الدول الكبرى لضمان البقاء على كرسي الحكم أطول فترة ممكنة.
الدول العربية لا تسير بالمنهجية المُتعارف عليها في هذا الشأن، وأن شغلهم الشاغل هو استرضاء رؤساء الدول الكبرى لضمان البقاء على كرسي الحكم أطول فترة ممكنة
رابعًا/ سياسة الدول الكبرى في التعامل مع الهدايا التي يحصل عليها رؤساؤها
تنص قوانين وزارة الخارجية الأمريكية على قبول الهدايا لحظة تقديمها من قِبل زوَّار الدولة، على أن تسلّم لاحقًا للسلطات المتخصصة بالأرشفة؛ نظرًا لأن هؤلاء الأشخاص إنما حصلوا على الهدايا بحكم منصبهم الرسمي.
وتنص القوانين الأمريكية كذلك على أنه في حال تجاوزت قيمة الهدية 375 دولارًا تصبح ملكًا للحكومة الأميركية ويجب إعادتها إلى الجهات المختصة إلا إذا قرر المتلقي أن يشتريها وفق قيمتها في السوق.
وقد حصل ودفعت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون 970 دولارًا لتتمكن من الاحتفاظ بقلادة من اللؤلؤ الأسود قدمتها لها المعارضة البورمية الحائزة على جائزة نوبل للسلام "اونغ سان سو تشي".
وتنص دساتير بعض الدول على حظر تلقي أي شخص في الحكومة هدية من جهة أجنبية، لوجود نوايا متعددة للهدايا، بعضها يُعبّر عن رشوة سياسية، وآخر يُبرز إهانة متعمدة أو حربًا نفسية بين الطرفين.
الضمان الأساسي في مثل هذه الأمور هو إيقاظ الضمائر للتأكد من المراقبة الذاتية، وأن يكون المسؤول دائم الجاهزية للرد على سؤال "من أين لك هذا؟، وهذا ما هو ثابت في ديننا الحنيف
خامسًا/ مبدأ "من أين لك هذا" ومحاربة الفساد
إن ما ذكرناه لا يعني أن ما تتبعه الدول لضمان نزاهة المسؤولين يقضي على فسادهم، إن كل دول العالم بلا استثناء تشهد تحايلًا من المسؤولين على مثل هذه القوانين فتتضخم ثرواتهم بطرق كثيرة ملتوية وغير مشروعة لا تخفى على أحد.
إن الضمان الأساسي في مثل هذه الأمور هو إيقاظ الضمائر للتأكد من المراقبة الذاتية، وأن يكون المسؤول دائم الجاهزية للرد على سؤال "من أين لك هذا؟، وهذا ما هو ثابت في ديننا الحنيف.
عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: اسْتَعْمَلَ رَسولُ اللهِ ﷺ رَجُلًا مِنَ الأسْدِ، يُقَالُ له: ابنُ اللُّتْبِيَّةِ، قالَ عَمْرٌو: وَابنُ أَبِي عُمَرَ، علَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قالَ: هذا لَكُمْ، وَهذا لِي، أُهْدِيَ لِي، قالَ: فَقَامَ رَسولُ اللهِ ﷺ علَى المِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عليه، وَقالَ: ما بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فيَقولُ: هذا لَكُمْ، وَهذا أُهْدِيَ لِي، أَفلا قَعَدَ في بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ في بَيْتِ أُمِّهِ، حتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟" [صحيح مسلم]
إن مبدأ "من أين لك هذا؟" قد أرساه الإسلام لضمان دقة مراقبة الأفراد لأنفسهم، ولضمان يقظة ضمائرهم، وللقضاء على البَوْن الشاسع الذي يحدث بين طبقات المجتمع نتيجة خراب الذمم وموت الضمائر.
ورد في الأثر عن الفاروق عمر - رضي الله عنه - قال: "حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا"
أخيرًا أقول
ونحن بهذا الصدد لا ننسى ما تصرّف الرئيس محمد مرسي - رحمه الله – حين اتبع تقليدًا يُطبَّق لأول مرة في مصر وهو ضم كل الهدايا التي يتلقاها هو والوزراء والمسؤولون إلى خزانة الدولة والإعلان عنها في الصحيفة الرسمية لبيعها لصالح الدولة.