في حادثة الإمام والقطة - تلك اللقطة العفوية - التي كانت بحق لافتة لانتباه الناس جميعا، في المشرق والمغرب، لكون القرآن كلامًا معجزًا في تلاوته، وله سحر عجيب، جعل قطة عجماء تتسلق جسد الشيخ القاريء، وتجلس على كتفه، وتميل برأسها نحو فمه، وكأنها تريد أن تستمع أكثر لتلاوته الندية، ولكلامه السماوي الحق.
في تلك الحادثة - التي هي خير داع لدين الإسلام الحق، ولكتابه الحق، بدون ثرثرة كلام - نجد متطرفي العلمانيين من العرب الحاقدين الكارهين، إما صامتين مصدومين؛ لأن مثل تلك اللقطة، تذهب بكل هرتلاتهم وخزعبلاتهم الفكرية في لحظة، وإما مهاجمين ومنكرين، ومحاولين إثبات عادية المشهد، وعدم إشارته لأي بُعد.
الملاحظ جليًّا أن علمانيي العرب في درجة من التطرف في علمانيتهم، تصل لحد أن يجزم البعض: بأنهم منافقون في الحقيقة، نفاقًا عقائديًا خالصًا، يعلنون فيه الإسلام، ويبطنون الكفر الصريح، وهذا الرأي الذي يذهب إليه البعض ليس مستحيلًا ولا مستبعدًا، ونكاد نجزم أن بعضا منهم هم كذلك بالفعل .والبعض الآخر منهم معتقدٌ بالعلمانية التي تعني فصل الدين عن السياسة لا غير، أو فصل الدين عن مناحي الحياة، وإبقائه علاقة روحية وعبادية خاصة، بين العبد وربه.
العلمانية الغربية المسيحية كانت موجودة من قبل، عندما كانت هناك كنيسة قوية مسيطرة على حركة الحياة، وبالتالي ظهرت في مقابلها علمانية ترفض تلك السيطرة، وقد نجحت تلك العلمانية في حربها تلك، وألغت دور الكنيسة تماما في حركة الحياة، السياسية والاقتصادية وغيرها
ونحن نتكلم هنا عن أمثال هؤلاء، الذين لا يرفضون الدين بالكلية، ولا يعلنون الإسلام في الظاهر ويبطنون الكفر في الباطن، ونتساءل: إذا كان هؤلاء ليسوا منكرين للدين بالكلية، وليسوا كافرين به، فلماذا هذا التطرف في النظرة لكل ما هو ديني، ولكل مشهد ولقطة دينية.
أول ما يجب أن نشير إليه هو أن العلمانية العربية والإسلامية، هي ليست في مقابل علمانية غربية مسيحية؛ لأنه في الحقيقة لم تعد هناك علمانية غربية مسيحية؛ فالعلمانية الغربية المسيحية كانت موجودة من قبل، عندما كانت هناك كنيسة قوية مسيطرة على حركة الحياة، وبالتالي ظهرت في مقابلها علمانية ترفض تلك السيطرة، وقد نجحت تلك العلمانية في حربها تلك، وألغت دور الكنيسة تماما في حركة الحياة، السياسية والاقتصادية وغيرها.
ووصل الأمر إلى حد أن غزت العلمانية الكنيسة نفسها، فأصبح رجال الدين في الكنيسة الغربية علمانيين، لا ينادون بتدخل الدين في حياة الناس، ولا هم حتى مؤمنين بأهمية ذلك التدخل.
العلاقة في الغرب بين الدين وحركة الحياة أصبحت علاقة ثابتة راسخة، لا رسوخ الوجود، ولكن رسوخ العدم، فلا علاقة البتة، ولا أحد يدعو لهذه العلاقة، والكنيسة نفسها هي أول المؤيدين لذلك الفصل .ويبقى دور الدين موجودًا إلى حد ما في توجيه السياسية الخارجية، في بعض المسائل، وخصوصًا المتعلقة منها بدعم قيام إسرائيل، ولكنّ دور الدين يأتي هنا بعد المصلحة، وربما لا يأتي أصلًا إلا لتأييد هذه المصلحة، السياسية والاقتصادية والعسكرية.
المصلحة هي إله الغرب المسيحي، والكنيسة قد أصبحت مزارًا، أو مكانًا لبعض التمتمات الروحية، التي ينتهي تأثيرها على أبواب الكنيسة، وروادها خارجون.
العلمانية الحقيقية هي الموجودة في بلاد العرب والمسلمين؛ لأنه لا وجود للعلمانية إلا في بيئة ينادي فيها المنادون بتحكيم الدين وتسييره لحركة الحياة، وهذا ليس موجودًا إلا في بلاد العرب والمسلمين
العلمانية الحقيقية هي الموجودة في بلاد العرب والمسلمين؛ لأنه لا وجود للعلمانية إلا في بيئة ينادي فيها المنادون بتحكيم الدين وتسييره لحركة الحياة، وهذا ليس موجودًا إلا في بلاد العرب والمسلمين.
وموجود كذلك في الكيان الصهيوني المسمى بإسرائيل، الذي قام على أساس ديني خالص، وما يزال البعد الديني هو الباعث له، ولذلك فإننا نجد علمانية يهودية موجودة، ومنافسة للدينية اليهودية التي تريد أن تبقى حاكمة ومسيطرة.
وتطرف العلمانية العربية، الذي نحن بصدد الحديث عنه، له أسباب:
وأول هذه الأسباب، من وجهة نظري/
هو حبكة الدين الإسلامي وتماسكها؛ فالذي يريد أن يرفض بعضه ويقبل بعضه، لا يجد نفسه في النهاية إلا رافضًا له كله.
وقد ذم الله تعالى الذين يأخذون بعض الإسلام ويتركون بعضه، فقال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 91 : 93]
وقال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]
ولما جاء البعض للرسول - صلى الله عليه وسلم - ليعلنوا إسلامهم، ويتحفظوا على بعض فرائضه وتوجيهاته، رفض النبي إسلامهم، وأخبرهم أن الإسلام كلٌ متماسك، إما أن يقبلوه كله، أو يتركوه كله.
وثاني أسباب تطرف العلمانيين/
يرجع لقوة الإسلام، فالإسلام هو دين الله الحق، وهو بجانب كونه محبوكًا متماسكًا، هو دين قوي غالب على قلوب وعقول أتباعه، إلى درجة لا تتوفر لأي دين أو معتقد أو فكرة أخرى في دنيا الناس.
وكلما كان الخصم قويًا كلما احتاج إلى قوة في المواجهة، تصل إلى التطرف في هذه القوة ، كما هو الحال مع علمانيينا.
إسلامنا قوي ومسيطر، ولا بد لعدوه أن يكون قويًا، ومتطرفًا في حربه، فلن يقوى على حرب القوي إلا القوي أو الضارب بقوة، وهذا هو عين التطرف .وهناك سبب ثالث لتطرف العلمانيين، نحن بصدد الإشارة إليه هنا بوجه خاص، وهو سبب متعلق بالإسلاميين، وتصرفاتهم وسلوكهم؛ فالإسلاميون هم واجهة الإسلام في هذا العصر، فهم الذين اعتقدوه عقيدة وانتهجوه منهجا وتنادوا به شريعة حاكمة.
غير أنهم قد سلك منهم فريق مسلكًا خارجًا عن روح الإسلام ومنهجه، مسلك التكفير والتفجير، فأعطوا أسوأ صورة للإسلام، والإسلام من هذه الصورة براء، كانوا وما زالوا يبدعون الناس ويفسقونهم ويكفرونهم لأقل الأسباب وأصغرها، فاستدعى هذا التطرف تطرفًا في مقابله من غير المسلمين عمومًا، أصحاب الديانات الأخرى، وخصوصا النصارى، واستدعى كذلك تطرفًا في المقابل من غير الإسلاميين في الخصوص، أصحاب التوجهات العلمانية.
العمل لدين الله ليس بالشيء الهين، والسائر فيه لا بد أن يجري تلك الموازنة الكبيرة، بين الحسنى في الدعوة إلى الله مع عدم الميل والحيد والمداهنة، ليقدم الصورة الحقيقية لدين الله، دين المفاصلة مع الحسنى في دعوة الغير، وعدم التطرف في البعد عنهم إلى حد المقاطعة والعداء مع عدم التطرف في القرب منهم إلى حد الامتزاج والتوحد
فرق كبير بين المهادنة والمداهنة، فالمهادنة تعني عدم إعلان الحرب، واعتماد الحوار والنقاش والتعايش سبيلًا إلى تغيير الأفكار والمعتقدات، أما المداهنة فتعني اعتناق بعض معتقدات وأفكار الآخر لاسترضائه.
وإذا كان تطرف بعض الإسلاميين قد كان سببًا من بين أسباب عدة لتطرف العلمانيين في مقابله، فإن مداهنة بعض الإسلاميين للعلمانيين هو سبب كذلك من أسباب ذلك التطرف؛ لأن مداهنتهم تعطيهم قناعة بأنهم على شيء، وما هم على شيء، والزيف إذا وجد اعترافًا به ومداهنة له يظن نفسه حقًا.
نجد بعضًا من الإسلاميين يداهنون العلمانيين إلى حد اعتناق بعض الأفكار وسلوك بعض السلوك، ويظنون أن ذلك من المرحلية في الوصول للغاية من تمام تحكيم المنهج الإسلامي وتمام تطبيقه في دنيا الناس.
والمرحلية بريئة من ذلك، فالمرحلية تعني تقديم بعض المنهج وتأخير بعضه إلى حين، مراعاة للوقت والظروف، ولا تعني مطلقًا التخلي التام عن بعض المنهج، أو دمج المنهج الإلهي المعصوم بمناهج البشر الوضعية المتغيرة.
العمل لدين الله ليس بالشيء الهين، والسائر فيه لا بد أن يجري تلك الموازنة الكبيرة، بين الحسنى في الدعوة إلى الله مع عدم الميل والحيد والمداهنة، ليقدم الصورة الحقيقية لدين الله، دين المفاصلة مع الحسنى في دعوة الغير، وعدم التطرف في البعد عنهم إلى حد المقاطعة والعداء مع عدم التطرف في القرب منهم إلى حد الامتزاج والتوحد.