حاذر من هذه الآفات في منهج طلب العلم (2-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » حاذر من هذه الآفات في منهج طلب العلم (2-2)
حاذر من هذه الآفات في منهج طلب العلم ج 2

لقراءة الجزء الأول، اضغط هنا.

• فوضى الطلب

وهي من آفات الإدراك الفكرية التي سبق ذكرها، وتقويمها يكون بالالتزام الدقيق والصادق بأولى الأولويات في التعلم، مهما بدا "بسيطًا" أو "قليلًا" أو "بدهيًّا"، أو باختصار "غير بطولي" كفاية في قائمة الإنجاز (وهذا الشعور بحد ذاته دليل على آفة نفسية وفكرية تتطلب تزكية)

فمن كان بحاجة لتصحيح أو بدء فقه العبادات الأساسية العينيّة: الصلاة والصيام والزكاة، ليس عليه أن يشتغل بفقه النكاح أو أحكام المولود كغيره ممن هو مقبل على الزواج مثلًا، ولا أن يتفرّع في علوم المنطق والنحو – على نفعهما وأهميتهما - إذا كان وقته أو طاقة تحصيله لا يتسعان في حينها.

وأولى درجات ترتيب الفوضى/

التفرقة بين نوعين من العلوم في أولويات التعلم: العلم النافع والعلم الحُجّة، العلم الحُجّة هو الذي به تؤدي مسؤولية تكليفك، وتَعلّمُه ألزَم لك وأوجب في حقك من تعلم أيّ علم آخر مهما كان نافعًا، فتَعلُّم المستوى الأساسي مما لا يسع مسلمًا الجهل به وإلا أخلَّ بإسلامه، أَوْلى من التعمق في المستويات الأخرى ولو كانت ذات صبغة أو تعلق شرعي [لتقسيم مراتب التعلم وأولوياته يراجع الفصل الخامس (صناعة العلم في عصر العلم) من كتاب (إضاءات على طريق بناء الذات) للمؤلفة]

وثاني درجات الترتيب/

التفرقة بين مستوى مبتدئ يحتاج التعلم قبل العمل ليعرف العمل المطلوب على وجهه، ومستوى متوسط يحتاج للسير بالتوازي بينهما وهو في منتصف الطريق، ومستوى متقدم الأَوْلَى في حقه مضاعفة الاشتغال بالعمل بما تعلَّمه على الاستزادة من التعلّم (والكلام هنا على الأولوية لا على امتناع الجمع بين الاستزادة من التعلم مع العناية بالعمل)

وهذه المستويات عامة في أيّ نوع من المعارف، لكنها أصدق ما تكون في تعلم علوم الدين؛ لأنها علوم تراد بها الحياة بالأساس، فمن لا يحيا بها لا تنفعه الاستزادة من معرفتها الميّتة بل تغدو حجّة عليه! ولا يعني ذلك وقف التعلم خشية الحُجّة فالحجّة قائمة كما سبق بيانه، وإنما المقصود هنا مراعاة المنهجية والنظام لتحقيق المقاصد المقصودة، في مساحة حياة وطاقة عمر لا يَسَعان كل شيء في ذات الوقت.

قد يكون من أسباب العجلة في التعلّم سباق المتعلم مع الزمن لإدراك ما فات وللحاق ما يأتي قبل أن ينقضي العمر، وهذا كذلك من الآفات النفسية والفكرية التي تتطلب التزكي وتصحيح المفاهيم

وثالث درجات الترتيب/

الإلمام بقواعد العلوم، وهي التصنيفات العامّة لكافة ما يمكن أن يشغلك من معارف، وهي:

1) قاعدة أساسية من علوم الاضطرار: سبق تفصيلها في مقال سابق بعنوان "علوم الاضطرار"

2) قاعدة مستوفية من علم التخصص: أكاديميًّا أو مهنيًّا.

3) قاعدة أساسية من علوم متقاطعة مع التخصص الأكاديمي أو المهني: كتعلم الطبيب للغة أجنبية يحتاج مراجع فيها، أو تعلم المدرب الرياضي لأسس الإسعافات الأولية، أو تعلم معلمة المدرسة لقدر من علم النفس وإشكالات المراهقة لترشيد نصائحها لطالباتها، أو تعلم المحامي لقدر من علوم البلاغة والإنشاء... إلخ.

4) قضية حياتية عَرَضت لك فتستوفي فهمها في حينها، كالفتاوى والأحوال الشخصية.

• عجلة الطلب

وهي من الآفات التي سبق ذكرها كذلك، ومن أسبابها عدم جديّة استشعار المتعلم لحاجة حقيقية أو "اضطرار" لتعلّم لما يتعلم، خاصة علوم الشرع التي تنافسها دائمًا شواغل ومعارف يراها المسلمون "أولى" بالاهتمام، فيكون الاضطرار لها مبالغة في غير محلها من المتشددين الذين فاتهم أنّ الدين يُسر! (كأنّ يسر الدين رخصة للابتداع فيه بدل تعلمه!)، فلا يجد المتعلم حين يُقبل على تعلم علوم الاضطرار ما يدعوه أو يضطره للصبر على الرسوخ فيها، والتأني في التدرج معها، خاصة إذا أُضيف للمعادلة طبيعة نفس تعوّدت الدلال والمزاجية، ومتعلم لا يعي مقاصد تعلّمه ولا منهجيته.

ومن هنا تتولد أعراض السأم والتململ، والتوجّس من صحة الطريق؛ خاصة لأنه "هادئ" و"فردي" وليس ذا رنين اجتماعي وبريق إنجاز فوري، فيطالِب المُتعجّل بالثمار قبل البَذر، ويقلق بشأن الفيض على غيره قبل الامتلاء في النفس والاندفاع للتصدر قبل التثبت... إلخ.

أو قد يكون من أسباب العجلة في التعلّم سباق المتعلم مع الزمن لإدراك ما فات وللحاق ما يأتي قبل أن ينقضي العمر، وهذا كذلك من الآفات النفسية والفكرية التي تتطلب التزكي وتصحيح المفاهيم، على ما سبق بيانه في (اتباع المراد) و(سداد السعي) في السؤال الثاني.
ذلك أن أحدًا لا يستطيع مسابقة عمره، وإنما غاية ما يمكن بل غاية ما يُرتَجى أن يحسِنَ استثماره فيُبارَك له فيه، طال أم قصُر زمنيًّا، وأولى أساسيات حسن الاستثمار التأني والصبر حتى ترسخ البذرة، ولا يجتمع عالِم وعجَلَة!

حلّ آفتي الاستعجال والتململ أن يعلم كلّ مسلم أنه مضطر لعلوم صحة الحركة على قدر حركته، فإما أن يُحَجّم شواغله على قدر علمه، أو يتعلم على قدر شواغله

والعلم الذي يُراد العمل به يُؤخَذ قَرارًا لا خَطفًا، وتأمّل كيف أنّ الأحكام الشرعية من الحلال والحرام لم تكن أول ما أُنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدء الرسالة، بل أول ما نزل هو العقيدة وحركتها في العقل فكرًا وفي القلب وجدانًا وفي السلوك تحققًا، على مدى ثلاثة عشر عامًا، والعقيدة من العقدة: انعقاد العقل بالفهم، والقلب بالإيمان، والجوارح بالسلوك، فأنّى تتأتي عقدة مُحكمة من أنامل متعجّلة؟

وحلّ آفتي الاستعجال والتململ أن يعلم كلّ مسلم أنه مضطر لعلوم صحة الحركة على قدر حركته، فإما أن يُحَجّم شواغله على قدر علمه، أو يتعلم على قدر شواغله، وليس من يعيش في الريف أو البادية كمن يعيش في الحضر وفي حضن الانترنت، فتحديات كلٍّ وإشكالاته وشواغله بينهما بعد المشرقين، وبذلك يُقبِلَ على تعلم العلوم، خاصة علوم الاضطرار، بنفسيّة "أرِحْنَا بها"، أي بوصفه كائنًا حيًّا يطلب لنفسه العلم بالحياة ليَحيا فيها به، فيريح ويستريح! ويتعلم باتّئاد وأَنَاة، ويُعمِل خواطره دوريًا بصدق في خطواته على الطريق، ليوازن أين هو مما يتعلم، وأين ما يتعلم مما هو فيه، وأمّا من يُقبِل عليها بنفسيّة "أرِحْنَا منها"، فستجده مستعجلًا على الانتهاء قبل البدء، وعلى الخلاص لا الإخلاص.

عدم العمل بالعلم إشكال حَلّه تفعيل العمل بما تتعلم، أو تغيير نوع العلم الذي تطلبه، أو درجته أو كيفيته؛ لا التوقف الكُلّي عن طلب العلم.

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • كتاب: إضاءات على طريق بناء الذات - هدى عبد الرحمن النمر
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …