حكم الاقتباس من آيات القرآن الكريم

الرئيسية » حصاد الفكر » حكم الاقتباس من آيات القرآن الكريم
حكم الاقتباس من آيات القرآن الكريم

يقصد بالاقتباس: تضمين نصوص من القرآن الكريم في كلامنا البشري لفظًا أو كتابة بدون التنبيه إلى أن هذا نص قرآني.

قبل مدة انتشر تسجيل (فيديو) لأحد الإخوة الدعاة عن الاقتباس وربطه بالمزاح بآيات القرآن الكريم وربما بالغ في ذلك، أو ربما فهم كلامه خطأ فاضطُر أن يصدِر هو تسجيلًا آخر يحذّر فيه من (الإفراط) بعد (التفريط)؛ لأنه رأى بعض الشباب قد نحا بالموضوع منحى بعيدًا عن المطلوب، وكنت قد حدثت نفسي بالتعقيب عليه قبل أن يعقّب هو على نفسه جزاه الله خيرًا، واليوم تكررت الحاجة لبيان الحكم الشرعي في أصل الاقتباس.

في جانب آخر كان أحد الدعاة المهتمين باللغة العربية والدراسات القرآنية يدعو إلى نشر المفردات والمصطلحات القرآنية في خطابنا اليومي، وقد كلمني كثيرًا في هذا؛ لأنه يرى أن لغة الناس اليوم صارت بعيدة عن لغة القرآن، ومن ثم صارت مفردات القرآن غريبة على السمع، وهذا أثر تأثيرًا سلبيًا على فهم القرآن وتدبره، بخلاف جيل الصحابة - رضي الله عنهم - الذين كانت لغتهم اليومية أقرب إلى لغة القرآن، بل لقد أثّر القرآن في لغتهم تأثيرًا واضحًا في المفردات والأساليب، يقول هذا الأستاذ الفاضل: "إني لم أسمع مثلًا من أي خطيب كلمة (يعمهون) وهي مفردة قرآنية، بينما تتسلل إلى خطاباتنا المفردات والعبارات الأجنبية، وهذا يعني أنه بمرور الزمن تتكون عندنا لغة بعيدة كل البعد عن لغة القرآن".

الذي يظهر من الأدلة النصية نفسها أن الاقتباس من القرآن بحد ذاته أمر مشروع بل ومطلوب في بعض الأحيان

الخلاصة أنه يدعو إلى تضمين المفردات القرآنية في لغتنا اليومية خاصة من قبل العلماء والخطباء والأدباء بما لا يتعارض مع السياق القرآني ودلالاته الشرعية والأدبية.

حقيقة أننا إذًا أمام قضية ليست سهلة، ولا يمكن أن نتخذ فيها موقفًا حادًا بدافع الورع المجرد، أو لسد ذريعة المستهزئين والمتلاعبين ونحو ذلك.
والذي يظهر من الأدلة النصية نفسها أن الاقتباس من القرآن بحد ذاته أمر مشروع بل ومطلوب في بعض الأحيان، ولنأخذ هذه الأمثلة:

1. القرآن الكريم نفسه يعلمنا الاقتباس منه

كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، فأنت تضمن الجملة القرآنية: "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" في خطاب النعي وتدرجه في كلامك، ولا يطلب منك التنصيص على أن هذا قرآن.

ومثل هذا قولك لمن تجب عليك طاعته "سمعنا وأطعنا"، ونحو ذلك كثير من الأدعية الواردة في القرآن الكريم مثل: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" فأنت تدرج هذا النص القرآني في دعائك دون أن تقول قبله: قال الله تعالى، وهذا هو الاقتباس.

2. النبي - عليه الصلاة والسلام - يعلمنا الاقتباس من القرآن الكريم في كثير من أحاديثه وأدعيته

ونكتفي بهذا الحديث الشريف الذي رواه مسلم عن السيدة عائشة، قالَتْ: "كانَ إذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بيْنَ عِبَادِكَ فِيما كَانُوا فيه يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِما اخْتُلِفَ فيه مِنَ الحَقِّ بإذْنِكَ؛ إنَّكَ تَهْدِي مَن تَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" فانظر إلى اقتباسه - عليه الصلاة والسلام - لهذا النص القرآني وتداخله مع دعائه بدون تمييز أو فصل.

3. الصحابة - رضي الله عنهم - يقتبسون من القرآن الكريم أيضًا بدون نكير

ونكتفي هنا بهذا الاقتباس عن السيدة عائشة في حادثة الإفك وكما في رواية البخاري: "مَثَلِي ومَثَلُكُمْ كَيَعْقُوبَ وبَنِيهِ، بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أنْفُسُكُمْ أمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، واللَّهُ المُسْتَعَانُ علَى ما تَصِفُونَ"

تحذير بعض أهل العلم - على قلتهم - من الاقتباس؟ واضح جدًا أنهم يقصدون الاقتباس العابث والمخالف لمقاصد الشرع، إما لجهالة جاهل، أو لسفاهة سفيه

بعد هذه الأدلة كيف نفهم إذًا تحذير بعض أهل العلم - على قلتهم - من الاقتباس؟ واضح جدًا أنهم يقصدون الاقتباس العابث والمخالف لمقاصد الشرع، إما لجهالة جاهل، أو لسفاهة سفيه، وفي تقديري أن هؤلاء لن يصدهم تحريمنا للاقتباس؛ لأنهم لا يعرفون الاقتباس أصلًا، وإنما هم يستهزئون بالله وبرسوله وبكتابه صراحة.

بقي هنا أن أبين أن المنشور السابق ليس فيه اقتباس أصلًا؛ لأن الشيخ النابلسي لم يضمن النص القرآني تضمينًا في كلامه، وإنما قال: كما يقول القرآن، وهذا استدلال أو استشهاد وليس اقتباسًا، ومعناه: "أن الله تعالى أخبر عن نفسه أنه لا يرد سائلًا "ادعوني أستجب لكم"، فهذه إذًا صفة محمودة، والتخلق بها محمود كذلك، مع الجزم بنفي التشبيه في الدعاء والاستجابة.

وهذا التخلق المشروع له نظائر كثيرة في القرآن والسنة، مثل:

أ. الله سبحانه وصف نفسه بقوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 117]، ولأن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد تخلق بهاتين الصفتين قال القرآن عنه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]

ب. الله سبحانه وصف نفسه بأنه (حفيظ) و (عليم)، ولأن يوسف - عليه السلام - قد تخلق بهما جاء قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]

ج. الله سبحانه وصف نفسه بـ (الكريم)، وقد جاء هذا الوصف لسيدنا يوسف وآبائه عليهم السلام، جاء في صحيح البخاري قوله عليه الصلاة والسلام: "الكَرِيمُ ابنُ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ بنِ إسْحاقَ بنِ إبْراهِيمَ"

ومن الغرائب التي وصلتني قبيل رمضان منشور يقول فيه صاحبه: لا تقولوا "رمضان كريم"؛ لأن هذا شرك الصفات!! ونسب قوله هذا للشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - وقد نسي هذا الأخ أن الله وصف بهذه الصفة النباتات فقال: {أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7]، أما النسبة إلى الشيخ فلم تكن صادقة بحسب علمي.

د. إن الأمر بالتخلق بصفات الله تعالى قد وردت الإشارة إليه في كثير من النصوص من ذلك حديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، وحديث: "اللهم إنك عفوّ تحب العفو فاعف عني"، وقد وصف الله - سبحانه وتعالى - نفسه بأنه هو "الأعلى"، وأمرنا نحن أن نتخلق بهذه الصفة فقال سبحانه: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]

بعض أسمائه تعالى لا يجوز التخلق بها مثل: (القدوس) و (المتكبر)، كما أن اتصافنا ببقية الصفات لا تعني التشبيه، فرحمة النبي ثابتة لكنها ليست كرحمة الله، وهكذا في العلم والحفظ والحكمة والقوة

مع ضرورة التنبيه هنا إلى أن بعض أسمائه تعالى لا يجوز التخلق بها مثل: (القدوس) و (المتكبر)، كما أن اتصافنا ببقية الصفات لا تعني التشبيه، فرحمة النبي ثابتة لكنها ليست كرحمة الله، وهكذا في العلم والحفظ والحكمة والقوة... إلخ.

بقي هناك من يتساءل عن كلمة "دعاء" هل يجوز إسنادها أو توجيهها إلى المخلوق؟ الحقيقة أن (دعاء) و(دعوة) كلاهما من الفعل (دعا) وهذا الفعل قد يأتي بمعنى العبادة فلا يصرف إلا لله تعالى، وقد يأتي بمعنى النداء والسؤال والطلب فيصرف لغير الله، يقول الله تعالى: {لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} [النور: 63]، فالدعاء بيننا يسميه القرآن (دعاء) وكذلك دعاؤنا لرسول الله، وكذلك دعاؤنا لله تعالى، وإنما الفرق بالنية والقصد.

وقد وردت كلمة (دعوة) بمعنى (دعاء) في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

تلاحظون إخواني وأخواتي أن كثيرًا من أهل العلم يختم كلامه أو دعاءه بهذه العبارة وهي مقتبسة من قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]

أخيرًا - من باب النصح الواجب - أني رأيت بعض الشباب لا يتورع عن الفتوى بأن هذا يجوز وهذا لا يجوز معتمدًا على صفحة قرأها في موقع أو تسجيل صوتي ونحو ذلك، وبعض هذه (الفتاوى) جاءت مخالفة للقرآن وللسنة، كما في تحريم هذا الأخ لعبارة (رمضان كريم) ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وصلى الله وسلم على حبيبنا وسيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين..

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

لماذا نحن؟ وعلى أيّ شيء نحافظ؟!

مع تجدد حرب الإبادة الجماعية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، وبعدما فعل الفلسطينيون في هذا …