“كوفيد – 19″… انتهت الجائحة ولم تنتهِ أزماتنا الأخلاقية والنفسية

الرئيسية » بصائر من واقعنا » “كوفيد – 19″… انتهت الجائحة ولم تنتهِ أزماتنا الأخلاقية والنفسية
كوفيد – 19... انتهت الجائحة ولم تنتهِ أزماتنا الأخلاقية والنفسية

أعلنت منظمة الصحة العالمية في الآونة الأخيرة عن انتهاء جائحة "كوفيد – 19" كحالة طوارئ عالمية، وبالرغم من أن ذلك يُعد بمثابة خبر سارٍّ لمجتمعات العالم بأسرِه، إلا أنه لا يعني أن كل مشكلاتنا التي كشف عنها أو رافقت أيام الجائحة، قد انتهت.

وفي الحقيقة، فإن القضايا المرتبطة بأكثر من ثلاث سنوات من عمر الإنسانية (منذ الإعلان عنه كوباء عالمي في مارس 2020م، وحتى الإعلان عن انتهائه كحالة طوارئ عالمية في مايو 2023م) قد ظُلِمَت بسبب الظلال القاتمة التي ألقتها الحرب الروسية الأوكرانية على العالم في أمور شديدة الحساسية، ومنها التهديد بنشوب حرب نووية، وأزمة الغذاء والحبوب العالمية.

ثم جاءت الحرب في السودان، لكي تلقي المزيد من العتمة على قضايا جِدُّ مهمة ارتبطت بالوباء، ولو كانت الأمور أكثر استقرارًا فيما يتعلق بالأمن والسلم العالميَّيْن، سواء الأمن بمعناه المباشِر، أو الأمن بمعناه الواسع - والذي يتضمن أمن الغذاء والطاقة - لكان الكثيرون قد بدأوا جهدًا ضروريًّا ومطلوبًا في الواقع، لدراسة ما كشفته أو قادت إليه الجائحة من ظواهر وأزمات في مناحٍ شتَّى، ومنها النواحي الأخلاقية والنفسية.

لو كانت الأمور أكثر استقرارًا فيما يتعلق بالأمن والسلم العالميَّيْن، لكان الكثيرون قد بدأوا جهدًا ضروريًّا ومطلوبًا في الواقع، لدراسة ما كشفته أو قادت إليه الجائحة من ظواهر وأزمات في مناحٍ شتَّى، ومنها النواحي الأخلاقية والنفسية

وربما أكثر فئة انتبهت إلى أهمية هذه المراجعات المطلوبة في اتجاهات شتَّى، هي فئة الأطباء البشريين والنفسيين؛ لأنهم كانوا الأكثر اقترابًا من الجائحة وتبعاتها، وكذلك الأكثر تأثُّرًا بها.

فالبحوث المختلفة أظهرت أن المشتغِلين بمهن الرعاية الصحية بأشكالها المختلفة، يختبرون أو يعالجون مستويات أعلى من ضغوط العمل، مقارنةً مع غيرهم من القطاعات المهنية الأخرى في الظروف العادية، وبالتالي.. في الظروف المرتبطة بالوباء، وما رافقته من ضغوط عمل، ورؤية حالات الاختناق والموت، سوف تكون هذه الضغوط في أعلى مستوياتها، النفسية والجسدية، لدرجة التفكير في الانتحار [نيل جيلبيرت: الصحة النفسية للأطباء خلال جائحة كوفيد – 19، ترجمات فصلية "علم النفس"، عدد 134، يوليو - سبتمبر 2022م، ترجمة: أحمد موسى (د)]

والحقيقة أن ما تعرَّض له الأطباء والعاملون في قطاعات الخدمات الصحية المختلفة، ينسحب على الناس العاديين؛ فقد شاعت مظاهر المرض وحالات الموت في البيوت، متصلةً بمشاهد غاية في التأثير والصعوبة على أي إنسان، مثل ضيق التنفُّس، والاختناق الذي استعاذ الرسول الكريم - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - منه كأحد الأسباب البشعة للموت.

وفي ظل وجود مئات الملايين من حالات الإصابة مختلفة الشِّدَّة، وملايين من حالات الوفاة بـ "كوفيد – 19" [حوالي 776 مليون إصابة، ونحو سبعة ملايين وفاة، وفق: إحصائيات كورونا في العالم ليوم 2023-05-07، "إيلاف"]، فإن أول ما تحتاجه البشرية الآن، هو العلاج النفسي ، وهو وضعٌ مألوف في أوقات كَثرة الهَرَج، وشيوع الموت والقتل، مثل الحروب والأوبئة واسعة النطاق.

وحتى الآن، لا يزال الأوروبيون يذكرون جائحة "الموت الأسود" – الطاعون – التي اجتاحت أوروبا والعالم في منتصف القرن الرابع عشر، وأودى بحياة ما بين 25 إلى 60 بالمائة من سكان أوروبا (الرقم الأقرب للدقة ثُلُث سكان أوروبا)، بالرغم من مرور ما يقرب من ستة قرون ونصف القرن عليها، ولا تزال الندبة النفسية التي تسبب فيها الوباء وقتذاك، موجودة في الوجدان الجمعي الأوروبي.

المفترض أن حكومات الدول "الكبرى" و"العُظمى" أكثر قدرة وتنظيمًا، وبالتالي يمكنها التحكُّم في هذه النوازع وتنفيذ وعودها بالحرية والديمقراطية والشفافية، التي تحتل العراق لأجلها، وتقصف أفغانستان لتحقيقها!

ولكن هذا ليس كل شيء، فإن ما كشف عنه فيروس دقيق مثل فيروس "كورونا المُستَجَدّ"، من عورات البشرية أكبر من ذلك بكثير، ولا سيما فيما يتعلق بالمعضلات الأخلاقية التي وجد الإنسان نفسه عليها عندما خَلَت أرفف المتاجر من المواد الغذائية بعد تعطل حركة الشحن العالمية وتوقف سلاسل الإمداد بسبب الجائحة.

فالإنسان المعاصِر الذي يتشدَّق بشعارات مثل "عالم أكثر عدالة"، ويطرح عبارات عظيمة مثل "الانتماء الإنساني"، وجدناه لا يختلف في شيء عن حيوانات الغاب، وهو يتخطَّف رغيف الخبز وعلبة الحليب المتبقيَيْن من أمام أخيه الإنسان من فوق أرفف المتاجِر!

الأمر هنا ليس متعلِّقًا فحسب بمفهوم الأخلاق القريب إلى الذهن، وإنما أيضًا يرتبط بقضية أخرى كشفتها سنوات وأيام الجائحة، وهي نفاق الإنسان فيما يدَّعيه عن الأخوة الإنسانية؛ فبينما الدول الكبرى تحاسب العالم الضعيف بمعايير حقوق الإنسان "وبمنتهى الصرامة والجدِّيَّة"، نجدها تمارس أبشع أنواع الطبقية والنظرة الاستعلائية الفوقية، في توزيع حصص اللقاحات عبر العالم؛ فقد نال الأثرياء والأقوياء – بحسب منظمة الصحة العالمية نفسها – نصيبهم ونصيب الفقراء والضعفاء معًا!

وقد نفهم ذلك في الممارسات الفردانية التي تتسم غالبًا بالأنانية، ولكن المفترض أن حكومات الدول "الكبرى" و"العُظمى" أكثر قدرة وتنظيمًا، وبالتالي يمكنها التحكُّم في هذه النوازع وتنفيذ وعودها بالحرية والديمقراطية والشفافية، التي تحتل العراق لأجلها، وتقصف أفغانستان لتحقيقها!
في اتجاه آخر، فإن من واجب مراكز البحوث والدراسات سواء في المجال العلمي التطبيقي، أو العلوم الاجتماعية، إصدار أبحاث تناقش كيف كشفت جائحة "كوفيد – 19" عن هشاشة الإنسان، في عصر يتكلم فيه المفكرون والفلاسفة عن نظريات "الإنسان السوبرمان" و"الإنسان الكامل"، ذلك "الإنسان الكامل" الذي لا يزال في عصر البيولوجيا الجُزَيْئية عاجزًا أمام فيروسات الأنفلونزا!

بحسب أرقام الأمم المتحدة، فإن نحو ربع الصادرات الغذائية الأوكرانية فقط ذهبت إلى دول العالم الأكثر فقرًا في موسم 22/2023م، بينما ذهب ما نسبته 47 بالمائة إلى الدول ذات الدخل المرتفع

كشفت الجائحة كذلك عن هشاشة استعدادات المجتمعات والحكومات على حد سواء لمواجهة ظروف حصار طارئة، وهي مشكلة اقتصادية بالأساس، تتعلق بتوزيع الموارد حول العالم، ونفس المشكلة التي واجهت العالم ولم يجد لها علاجًا فاعلًا خلال الحرب الروسية على أوكرانيا، سوى اتفاق استئناف تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، وهو ما يعني غياب البديل للقمح والحبوب الروسية والأوكرانية.

فبحسب أرقام الأمم المتحدة، فإن نحو ربع الصادرات الغذائية الأوكرانية فقط ذهبت إلى دول العالم الأكثر فقرًا في موسم 22/2023م، بينما ذهب ما نسبته 47 بالمائة إلى الدول ذات الدخل المرتفع، مثل إسبانيا وإيطاليا وهولندا، وهو ما يخالف اتفاق إسطنبول الخاص بالممر الآمن لصادرات الحبوب الأوكرانية.

باختصار: لا يبدو في الأفق أن العالم بصدد معالجة مشكلاته الأهم، أو ما يُثار في موضوع مكافحة التغيُّر المناخي، إنما هو يستهدف الدول الصناعية الغربية، وبخاصة التحالف الأنجلو سكسوني وعلى رأسه بريطانيا والولايات المتحدة، من خلاله القطاع الصناعي الصيني .

ولا يبدو أن هناك جهودًا حقيقية سوف تبذلها الدول الأكثر قدرة وقوة، والتي بنت قدراتها وقوتها هذه على حساب الدول الأضعف والأكثر فقرًا، من أجل بحث ما جرى في العالم منذ 2020م وحتى يومنا هذا، والعمل على إيجاد حلول تعاونية له، برغم كل ما ترفعه من شعارات وهمية عن العدالة وحقوق الإنسان!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

من عوامل ثبات أهل غزة

قال تعالى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم …