حدث وأن كان بينه ورجل كلامٌ في شيء، فقال له الرجل: اتق الله يا أمير المؤمنين! فقال له رجل من الحاضرين: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟ فقال الفاروق عمر- رضي الله عنه وأرضاه: دعه فليقلها، نِعْمَ ما قال؛ لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها.
لم يُستدع الرجل إلى أمن الدولة لأنه انتقد الخليفة أمام الناس، ولم يُسحب إلى الشرطة والنيابة والمحاكم، بل قال ما بنفسه وعبّر عن أمر رأى ضرورته وأهمية تأديته لدور المواطن الصالح، الذي لا يتردد لحظة في توعية وتنبيه رأس الدولة – وهو يومئذ الخليفة عمر- بقوله: اتق الله يا أمير المؤمنين.
لم يكن في ذلك التنبيه ما يسيء للخليفة كما رآه بنفسه الفاروق – رضي الله عنه – بل رأى في دعوة ذاك المواطن له، أنها أقرب ما تكون إلى تذكيره بالله، فهو إنسان وإن كان أميرًا للمؤمنين، مثله مثل بقية الناس، يصيب ويخطئ.
الاستبداد ابتلاء للشعوب المستبد يتذمر عادة من سماع صوت فيه شيء من المخالفة لرأيه أو رؤيته، لا يطيق ذلك، بل يعتبره مساسًا بذاته
ورأى أن التذكير بالله وضرورة اتقاء غضبه سبحانه، أمر طيب ومطلوب أن يشيع بيننا جميعًا، الحاكم والمحكوم أولًا، ثم بين المحكومين أنفسهم أيضًا، أو ما نسميهم اليوم بالرعية أو الشعب أو المواطنين، أو غيرها من ألفاظ ومصطلحات، بمثل تلكم النوعيات من القادة والمسؤولين، أصحاب الصدور الرحبة، والعقول الواعية الراقية، وبمثل تلكم النوعيات كذلك من الشعوب، التي كانت لا تخاف في الله لومة لائم، تقول الحق في وجه الزعيم قبل غيره، ترقى وتنهض الأمم، وبمثل أولئك وصل الأولون من هذه الأمة إلى ما وصلوا إليه، وبفقدان تلك النوعيات شيئًا فشيئًا، وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم..
هذه خلاصة مقال اليوم، ولمن أراد الاستزادة، فيمكنه المتابعة..
الاستبداد ابتلاء للشعوب المستبد يتذمر عادة من سماع صوت فيه شيء من المخالفة لرأيه أو رؤيته، لا يطيق ذلك، بل يعتبره مساسًا بذاته، يقول سيد قطب – رحمه الله – في (ظلال القرآن) عن نفسية وطبيعة المستبد إنه: "تأخذه العزة بالإثم، ويرى في النصح الخالص افتياتًا على سلطانه، ونقصًا من نفوذه ومشاركة له في النفوذ والسلطان، يقول تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صوابًا وأعتقده نافعًا، وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال! وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب، وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون، وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأيًا، وإلا فلم كانوا طغاة؟"
ومعلوم من شواهد التجارب البشرية وأحداث التاريخ، أن الاستبداد غالبًا تصاحبه الحماقة، المستبد لابد وأن يصل به الاستبداد بعد حين من الدهر - لا يطول - إلى أجواء الحماقة، سواء في قراراته أو إبداء آرائه أو رؤاه، ستجد الحماقة تلازم تصرفاته، أقوالًا كانت أم أفعالًا، والقرآن الكريم ضرب لنا أمثلة كثيرة لنوعيات من أولئكم الحمقى والمغفلين على شكل زعماء ومسئولين.
لا يخفى على المستبد مهما كان غبيًا أحمقًا، أنه لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء، تتخبط في ظلامة جهل وتيه عمياء
إن أسوأ ما يمكن أن تُبتلى به أمة من الأمم هي سيادة مستبدين، من تلك النوعية التي لا ترى غير ما هي تراه، لا ما يراه أحد غيرها، والأسوأ من أولئك المستبدين، تلكم الشريحة العريضة الممتدة من المرؤوسين، وقبولها العيش في ذل، مقابل فتات أو بعض مباهج دنيوية زائلة، وهو القبول الذي يؤدي غالبًا بها إلى استحسان أفعال وأقوال أولئك المستبدين، بل والهتاف باسمهم وطلب المجد لهم، رغبة أو رهبة!
فهل هناك للشعوب أسوأ من هذا؟ الاستبداد زائل وإن طال، والقرآن الكريم حين يذكر قصص المستبدين المتكبرين، فإنما لتكون شواهد باقية على أن الناس هم أنفسهم السبب في صناعة أولئك المستبدين المتجبرين، وذلك حين تختار أو ترضى بجهّالها سادة وزعماء وقادة، وبالتالي لا يجب عليها بعد ذلك أن تصيح في كل واد، تشتكي إلى هذا وذاك من سوء وقسوة حكامهم المستبدين، فإن أولئك الحمقى نتاج تجاهل الناس أو الشعوب وغفلتها أو تغافلها عمن يصلح لها في إدارة شؤون حياتها.
وقد أشار الكواكبي إلى هذا حين ذكر بأنه لا يخفى على المستبد مهما كان غبيًا أحمقًا، أنه لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء، تتخبط في ظلامة جهل وتيه عمياء، وهذا الذي فعله فرعون مع شعبه حين رآهم خفاف العقول، ويمكن إلهاؤهم بشتى الطرق، كما وصفه القرآن: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54]، أبو جهل، فرعون هذه الأمة، حين ذكره القرآن دون الإشارة إلى اسمه، كان أنموذجًا لما نتحدث عنه، كان حجر عثرة – إن صح التعبير- أمام قبيلة عريقة مثل قريش أن تواصل سيادتها على القبائل بدخولها الدين الجديد وقبوله بدلًا من محاربته، ليتسبب ذاك الأحمق بسبب عناده واستبداده في الرأي في انهيار سمعة قريش بين العرب في أول مواجهة عسكرية في بدر، وقيادة قومه وأشرافهم إلى مصير بائس، وقد كانوا من كانوا في قومهم قبل ساعات من هلاكهم.
الاستبداد مرض، سواء مع الذات أو الآخرين، هو مرض في البيت، العمل، المجتمع، الدولة، أو أي كيان أكبر آخر حولك، الأسوأ من الإصابة بهذا المرض، قبوله والرضى به
فرعون موسى، نموذج سابق لأبي جهل، كان غاية في العناد والجهالة والحماقة أيضًا، لم تنفعه قوته وأمواله ووزراؤه وخدمه وحشمه وكل الألوف المؤلفة من الجماهير المصفقة له، الذين استخف بهم حينًا من الدهر فأطاعوه.. لم يقف أحد معه وقت محنته وشدته، فكانت العاقبة المنتظرة لمتجبر ظالم أحمق مثله، الغرق في البحر أمام ألوف من الذين أذاقهم الذل والهوان حينًا من الدهر طال.
خلاصة الحديث أن الاستبداد مرض، سواء مع الذات أو الآخرين، هو مرض في البيت، العمل، المجتمع، الدولة، أو أي كيان أكبر آخر حولك، الأسوأ من الإصابة بهذا المرض، قبوله والرضى به؛ لأن ذلك عامل مهم يطيل من عمر الاستبداد والمستبدين، وإنّ مثل هذا الوضع لا يمكن تصحيحه وتغييره إلا حين يسمع الناس تارة أخرى: "اتق الله يا أمير المؤمنين"، وهذا أمر لا شك أنه لا يأتي ولا يقع بالتمني، ولكن بمشروع إصلاحي نهضوي استراتيجي، يأخذ من صلاح الماضي ما يدفع لإصلاح وتحسين الحاضر، واستشراف ما يصلح ويُحسّن المستقبل: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115]
كتب ذات صلة بالموضوع
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- إسلام أون لاين