في كتابه (المائة: ترتيب أكثر الشخصيات تأثيرًا في العالم) الذي ترجمه الكاتب الصحفي أنيس منصور تحت اسم (الخالدون المائة: أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم) يضع الكاتب مايكل هارت النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في أول القائمة، ليس اعترافا منه بنبوته ولكن اعترافًا بعبقريته.
ظل مايكل هارت على دينه ولم يدخل الإسلام، ولكنه على الرغم من ذلك أقرّ لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بعبقرية استثنائية جعلته جديرًا بقائمة الأكثر تأثيرًا في التاريخ الإنساني.
وللعقادِ كتابُ (عبقرية محمد)، وقد سمعت يومًا حوارًا يدور بين بعض شباب الإسلاميين حول الكتاب، الذي لم يقرأه أحد منهم، وكان الحوار يسير في طريق الحديث حول أن الكاتب أراد من وراء ستار أن يؤكد على بشرية محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن ينفي بذلك نبوته، لأنّ المفروض أن ينصبّ الحديث على النبي باعتباره نبيًا يوحى إليه لا باعتباره بشريًا عبقريًا.
ولا يخفى بالطبع هنا جهل هؤلاء الشباب بكتاب العقاد، وجهلهم بنيته من وراء كتابه، فالكتاب لا يحمل ذلك، ولا نظن نية العقاد تذهب لذلك.
والشاهد من وراء المثالين السابقين أن شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لها جانبان، جانب اعتباره نبيًا يوحي إليه، وجانب اعتباره بشريًا عبقريًا.
النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عظيمًا، سواء من ناحية أنه كان نبيًا يوحى إليه، أو من ناحية أنه كان بشريًا عبقريًا، والمفروض لكل منصف أن يشهد له بإحدى الحسنيين، والمفروض للمنصف تامِّ الإنصاف أن يشهد له بتمام الحسنيين معا
والعجيب، أن يكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الكافرون، ويرمونه بالكذب والتدليس، ثم لا يتوقفون أمام عبقريته وعظمته، كبشري لا نبي - من وجهة نظرهم - استطاع أن يصنع ما لم يصنعه غيره من البشر.
والمنفلوطي في كتابه (النظرات) يكتب تحت عنوان (العظمة) ما معناه: أن من أكبر علامات العظمة، أن يختلف حول الرجل الناس اختلافًا كبيرًا، فيعلو به قوم إلى عنان السماء، ويهبط به آخرون إلى الدرك الأسفل من الأرض.
وهذا هو الذي حدث ويحدث مع النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد أحبه المؤمنون به حتى أصبح أحب إليهم من أنفسهم وأهلهم، وكرهه آخرون فكذبوه ورموه بكل نقيصة، وأصبح حرب أفكاره وأتباعه بالنسبة لهم أهم أعمالهم.
النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عظيمًا، سواء من ناحية أنه كان نبيًا يوحى إليه، أو من ناحية أنه كان بشريًا عبقريًا، والمفروض لكل منصف أن يشهد له بإحدى الحسنيين، والمفروض للمنصف تامِّ الإنصاف أن يشهد له بتمام الحسنيين معا.
وقد وضع علماء الإسلام شروطًا للنبوة، لا بد أن تتوفر في النبي؛ كي يتأهل ليكون نبيًا، ومن بين هذه الشروط كان شرط (الذكاء).
وأقول: ليس ذكاءً عاديًا ذلك الذي من المفروض أن يتوفر في النبي ليكون نبيًا، ولكنه الذكاء العبقريّ، الذي لا مثيل له؛ لأن مهمة النبوة لا مثيل لها، وعلى قدر العمل يكون المؤهل له.
تحدث أحد الدعاة يومًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا بليغًا، ومما قال فيه، ما معناه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أقوى الناس عقلًا وأقواهم قلبًا، وشاهده على ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم تحمل الوحي، وظهوره له، وتلبسه به، وفيضه عليه، وتحمل مع ذلك سماع أصوات الموتى، وشهود عذابهم، وتحمل كذلك رؤيةَ الجنة وما فيها من نعيم، ورؤية النار وما فيها من عذاب، وتحمل قبل كل ذلك رؤية نور الله، والقرب من الله في سدرة المنتهى حتى قال البعض برؤيته لله.
كل ذلك تحمله النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقي بتمام عقله، لا لوثة فيه ولا اضطراب، وهذا ما لا يقدر عليه إلا نبي من ناحية، تامّ العقل والقلب من ناحية أخرى، ليقدر بعد عون الله على تحمل ذلك.
الكافرون بالنبي محمد غير المعترفين بنبوته، كان عليهم لكي يكونوا منصفين في أقل درجات الإنصاف أن يشهدوا له بالعبقرية والعظمة، ولو علوا بدرجة إنصافهم أكثر قليلًا لاعترفوا بأنه كان أكثر البشر عبقرية وعظمة، ولو أنصفوا إنصافًا تامًّا لاعترفوا بنبوته وآمنوا به
الكافرون بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - غير المعترفين بنبوته، كان عليهم لكي يكونوا منصفين في أقل درجات الإنصاف أن يشهدوا له بالعبقرية والعظمة، ولو علوا بدرجة إنصافهم أكثر قليلًا لاعترفوا بأنه كان أكثر البشر عبقرية وعظمة، ولو أنصفوا إنصافًا تامًّا لاعترفوا بنبوته وآمنوا به.
عبقرية النبي وعظمته لا يماري فيها ممارٍ
فمن ناحية الأفكار والفلسفات، هل نجد مثيلًا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقد خلف هذه الفكرة وتلك الفلسفة، التي لا مثيل لها، من ناحية اكتمالها طرحًا بكل أبعادها الفردية والجماعية، وكذلك من ناحية سيطرتها على أتباعها وإيمانهم بها إلى درجة الموت باسمين في سبيلها، فهل رأينا فكرة بشرية - مهما بلغت عظمتها - يموت من أجلها المؤمنون بها، وهم باسمون مستبشرون.
على كل منصف أن يشهد: إما أن تكون هذه نبوّة، وأن يكون ذلك وحيًا إلهيًّا، وإما أن تكون هذه عبقرية وعظمة من محمد في حبك الفكرة وفلسفتها بشكل لم يوجد له مثيل في تاريخ الدنيا.
ومن ناحية إنشاء الدول والإمبراطوريات، نجد محمدًا المؤسس لإمبراطورية الدولة الإسلامية، التي استمر وجودها ما يزيد على الألف عام، على امتداد جغرافي طال القارات الثلاث، وبقوة اقتصادية وعسكرية قل نظيرها.
وقل أن نجد - مثل ذلك - رجلًا يصوغ الأفكار والفلسفات، ثم يحققها على أرض الواقع في دولة، تتحول من بعده على يد أتباعه إلى إمبراطورية عظمى، بذات الأفكار والفلسفات التي صاغها الإمام المؤسس.
وكما يقول القائلون: "من الصعب إلى درجة تقترب من المستحيل أن يبدع رجل في المجالين معًا: مجال الفكر والفلسفة، ومجال العمل والواقع.
فرجال الفكر والفلسفة يقدمون المثال الذي يجب أن يسعى لمحاولة القرب منه أهل العمل والواقع، أمّا أن يحقق مفكرٌ فيلسوفٌ ما ينادي به، في دنيا الواقع، ويراه واقعًا ملموسًا، قبل أن يرحل عن الحياة، فهذا ما لم يتحقق، في تاريخ الحياة الدنيا، إلا على يد محمد - صلى الله عليه وسلم.
المدينة الفاضلة التي نادى بها الفلاسفة، ولم يحققوها، صنعها النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وعاشها في مدينته المنوّرة، وهو ما يشهد به التاريخ المنصف، الذي لا يكذب ولا يخادع.
الواجب على جميع الناس أن يؤمنوا به، فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، فإن لم يؤمنوا به، فقد كان الواجب عليهم الاعتراف بعظمته وعبقريته، فإما أن تكون قصته قصة نبي يوحي إليه، وإما أن تكون قصة عبقري لا نظير له
فعلى كل منصف أن يشهد: إما أن تكون هذه نبوة، وإما أن تكون هذه عبقرية وعظمة من محمد في تطبيق الفكرة وفلسفتها في أرض الواقع بشكل لم يوجد له مثيل في تاريخ الدنيا.
ومن ناحية التأثير في الأتباع والتلاميذ، فلا نجد في تاريخ البشرية كلها تأثيرًا من معلم في تلاميذه ومن قائد في جنوده مثلما وجدنا في قصة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصل الأمر إلى فدائه بالروح من أتباعه كما يحدثنا التاريخ، بل وإلى الاستمرار في فداء أفكاره بالروح كما نرى بأعيننا.
فهل رأينا في تاريخ الدنيا معلمًا يُفدى بالروح من أتباعه، ثم تُفدى أفكاره بالروح منهم من بعده، بعد مضي مئات السنين على موته.
تفسيرنا نحن المؤمنين لذلك، تفسير ينبع من إيماننا بأنه نبي يوحي إليه، وبأن أفكاره أفكار أوحى الله بها إليه في وحي صادق لا يكذب، وبالتالي فإن الذي يفديه بروحه من أتباعه وتلاميذه، ويفدي أفكاره من بعده بروحه كذلك، إنما يفعل ذلك إرضاء لله أولًا، وطلبًا لمحبته ورضوانه، ثم دفاعًا عن الحق الكائن في وحيه وشرعه.
أما أنتم أيها الكافرون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فلما أن كنتم غير مؤمنين بنبوته، ولن تفسروا ذلك كما فسرناه نحن المؤمنين، فإن الواجب عليكم من باب الإنصاف أن تعترفوا بأن محمدًا قد بلغ في التأثير في الأتباع والتلاميذ مبلغًا لم يبلغه بشري آخر في تاريخ الدنيا.
ذلك محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - الذي اعترف بعظمته الكثير من أرباب الفكر والرأي من غير المؤمنين به، والذين يضيق المقام عن ذكر شهاداتهم، وقد كان الواجب على جميع الناس أن يؤمنوا به، فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، فإن لم يؤمنوا به، فقد كان الواجب عليهم الاعتراف بعظمته وعبقريته، فإما أن تكون قصته قصة نبي يوحي إليه، وإما أن تكون قصة عبقري لا نظير له.