المصائب ليست دائما للعقوبة، قال تعالى ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ، كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيم﴾ [الفجر: 16-17], وإنما هي امتحان له حِكَمٌ كثيرة, ومن أهم هذه الحكم ما يلي:
1. إقامة الحجة، لأن الله سبحانه لا يحاسب الإنسان إلا على ما قدم من نية أو قول أو عمل، بعد أن بين الله له ما يجب عليه وما يُستحب, ولو أن الله خلق الناس دون أن يدخلهم الامتحان في هذه الحياة, وقال لفئة منهم: ادخلوا النار، لقالوا: يا رب أعطنا فرصة, مُرْنا بما شئت، وسنفعل كل ما تأمرنا به, وإن لم يُعطَوا هذه الفرصة فسيشعرون بأنهم ظُلموا, فأراد الله أن يعطيهم هذه الفرصة لإقامة الحجة عليهم, ومع ذلك يُقْسِم المشركون يوم القيامة بالله سبحانه أنهم ما أشركوا, يقول تعالى ﴿قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِين﴾ [الأنعام: 23].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك, فقال: هل تدرون مِمَّ أضحك؟ قال: قلنا: اللهُ ورسولُه أعلم, قال: مِن مخاطبة العبد ربه, يقول: يا رب ألم تُجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى, قال: فيقول: فإني لا أُجيزُ على نفسي إلا شاهداً مني, قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً, وبالكرام الكاتبين شُهوداً, قال: فيختم على فِيهِ, فيقال لأركانه : انطقي, قال: فتنطق بأعماله, قال: ثم يُخلى بينه وبين الكلام, قال: فيقول: بُعداً لكُنَّ وسحقاً, فعَنْكُنَّ كنت أناضل).
وهذا هو معنى قوله تعالى ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: 65], وقوله تعالى ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: 20-21]، فكل هذا الإنكار بعد أن أشركوا وعصوا، فكيف لو لم تُعْطَ لهم هذه الفرصة؟.
2. التمحيص، فالشدائد تكشف حقائق الناس، وتميز الطيب من الخبيث, والصادق من الكاذب, والمؤمن من المنافق, وفي ذلك فائدة عظيمة للمجتمع الإسلامي, يقول الله سبحانه وتعالى في الآيات التي تتحدث عن غزوة أحد وما نال المسلمين فيها, مبيناً جانباً من الحكمة في هذا الابتلاء: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [آل عمران: 179].
كما أن الشدائد تميز للإنسان الأصدقاءَ الحقيقيين من أصدقاء المصلحة, قال أحدهم:
جزى اللهُ الشدائدَ كلَّ خيرٍ وإنْ كانت تُغصِّصني بِريـقي
وما شكري لها إلا لأنـــــــي عرفت بها عدوي من صديقي
3. تكفير الذنوب، فقد يختار الله تعالى للإنسان أن يُعاقَب بذنبه في الدنيا، وأن لا يؤجل له العقاب إلى الآخرة, ولا شك أن عذاب الدنيا مهما عَظُم فهو أخف من عذاب الآخرة مهما صغُر، قال تعالى ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون﴾ [القلم: 33], والنصوص في تكفير الذنوب بالمصائب كثيرة جدا، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال البلاءُ بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى اللهَ وما عليه خطيئة).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبةَ في الدنيا, وإذا أراد بعبده الشرَّ أمسك عنه بذنبه حتى يُوافى به يومَ القيامة).
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما يصيبُ المسلمَ من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ ولا أذىً ولا غَمٍّ حتى الشوكة يُشاكُها إلا كَفَّرَ اللهُ بها من خطاياه).
4. رفع الدرجات، كما في بلاء الأنبياء وغيرهم من الصالحين الذين إذا ابتلاهم الله صبروا, فترتفع بالصبر درجاتُهم عند الله تعالى, ومن الأدلة على هذا حديث الباب (ما لعبدي المؤمنِ عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صَفِيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة).
وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله قال: إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه فصبرَ عوضتُه منهما الجنة).
5. التذكير بنعم الله تعالى على الإنسان، لأن الإنسان الذي خُلق مبصراً - مثلاً - ينسي نعمة البصر, ولا يُقَدِّرها حق قدرها, فإن ابتلاه الله بعمىً مؤقتٍ ثم عاد إليه بصرُه أحس بكل مشاعره بقيمة هذه النعمة.
فدوام النِّعمِ قد تُنسي الإنسانَ هذه النعم فلا يشكرها, فيقبضها الله منه ثم يعيدها إليه تذكيراً له بها ليشكرها.
بل إن في المصائب تذكيراً للإنسان ولغيره بنعم الله, فإذا رأى الإنسانُ مجنوناً أحسَّ بنعمة العقل, وإن رأى كافراً يعيش كما تعيش الأنعام أحس بنعمة الإيمان, وإن رأى مريضاً أحس بنعمة الصحة, وإن رأى فقيراً يتسول أحس بنعمة المال, وإن رأى جاهلاً أحس بنعمة العلم, هكذا يشعر من كان له قلب متفتح يقظ, أما الذين لا قلوب لهم فلا يشكرون على نعم الله بل يبطرون, ويتكبرون على خلق الله!!!.
6. عدم الركون إلى الدنيا، فلو خلت الدنيا من المصائب لأحبها الإنسان أكثر، وركن إليها وغفل عن الآخرة, ولكن المصائب توقظه من غفلته، وتجعله يعمل لدارٍ لا مصائب فيها, ولا ابتلاءات.
7. صقل شخصية المؤمن، فالمصائب تصقل الشخصية وتقويها, ولذلك لم يكن عبثاً أن اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون يتيماً, وأما الأطفال المدللون فغالباً ما تفسد شخصياتهم وتتميع.فالابتلاءات كالدورات التدريبية القاسية التي تُبرز الطاقاتِ وتُنَمِّيها.
8. التنبيه والتحذير، وهذا عند التقصير في بعض الأمور ليتدارك الإنسان ما قصر فيه, وهذا يُعَدُّ كالإنذار الذي يصدر إلى الموظف أو الطالب المقصر, والهدف منه تدارك التقصير, فإن تَنَبَّه فبها ونِعْمَتْ, وإلا فإنه يستحق العقاب.
ولعل من الأدلة على ذلك قوله تعالى ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾ [الأنعام: 42-43]، فقد أخذهم الله هنا بالبأساء والضراء لأنهم غفلوا عن التضرع والدعاء إلى الله, ولأنهم لم يفهموا الحكمة من الابتلاء, ولم يتضرعوا, بل زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون.
9. الإهلاك عقاباً، وهذا لمن جاءته النذر ولكنه لم يستفد منها ولم يغير من سلوكه, واستمر على ذنوبه, قال تعالى ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِم﴾ [الأنعام: 6], وقال تعالى ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِين﴾ [يونس: 13].
وقال تعالى ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: 16].
10. وقد يكون البلاء لعدة حكم مجتمعة، كما في مصيبة غزوة أحد قال تعالى ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين﴾ [آل عمران: 140-141].
ففي هاتين الآيتين نجد عدة حِكَم لما حدث في أُحد منها:
• مداولة الأيام بين الناس, ولهذا أسبابه وحِكمه.
• إقامة الحجة على الذين انسحبوا وتراجعوا.
• رفع درجات الشهداء.
• تمحيص المؤمنين.
• معاقبة الكافرين.
وكمن يُبتلى بولد معاق - مثلاً - ففي هذا ابتلاء لأهله جميعاً, وابتلاء له عندما يكبر, وامتحان للمجتمع هل يرعاه أم لا, وتذكير للآخرين بنعمة الله عليهم، فإن صبر الوالدان والأهل, وصبر المبتلى, وأدى المجتمع حق المعاق, وتذكر الناس نعم الله عليهم فإن الجميع يؤجر على ذلك كلٌ بحسب درجته.
11. إنَّ ما يراه الإنسان مصيبة قد لا يكون في الحقيقة كذلك، لأن الإنسان قد يرى جانباً من الأمر، وتخفى عليه جوانب أخرى أكثر أهمية, ثم يكتشف مع مرور الوقت بعض الجوانب الحسنة لما حدث، وقد يصل إلى قناعة أحياناً أن ما حدث كان خيراً ولم يكن مصيبة, قال تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون﴾ [البقرة: 216].
فقد يكون الأمر إذن خيراً لدينه وآخرته, بل قد يكون خيراً لدنياه أيضاً.
ولذلك فإن كثرة الابتلاءات في الدنيا لا تدل على كفر الإنسان أو فسقه، بل إن أكثر الناس بلاءً أفضلُهم وأتقاهم, فقد (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدُ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ, ثم الأمثلُ فالأمثل, يُبتلى الرجلُ على حسب دينه, فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه, وإن كان في دينه رقةً ابتلي على قدر دينه, فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة).
ولذلك نجد أصحاب الحق الملتزمين بما يرضي الله, الرافضين للانحراف عن دين الله هم أكثر من تُصب عليهم الابتلاءات في أنفسهم وأموالهم، فيُضَيَّقُ عليهم في رزقهم, ويُفصلون من وظائفهم, وتصادر حرياتهم, ويُزجون في السجون, وتُعلق لهم المشانق, ويُصب عليهم العذاب صباً، هذه هي سنة الله فيهم في الماضي والحاضر والمستقبل، وما ذلك إلا ليقيم بهم الحجة على غيرهم وليرفع درجاتهم في جنات الخلد.
وقد يستغرب المرء هذا, كيف يكون الأنبياء أشد الناس بلاءً؟! أفلا ينبغي أن يكون العكس؟
والجواب عن ذلك من خلال مثال عن امتحانات الطلاب, فامتحان طلاب الجامعة أصعب من امتحان طلاب الثانوي, وامتحان طلاب الثانوي أصعب من امتحان طلاب الإعدادي وهكذا, ولو قال أحدهم: ينبغي أن يكون الامتحان أسهل كلما تقدم الطالب في مراحل التعليم إكراما لهم وتشجيعاً, لما اقتنع بذلك أحد.
وكذلك الإنسان كلما ارتفع مستواه الإيماني والسلوكي أصبح امتحانه أصعب وأشد, ولكنه يؤجر عليه أكثر, وتكون درجته في الجنة أعلى, كما أن الطالب الجامعي يأخذ شهادة أعلى لأن امتحانه كان أصعب, وهذا هو الأمر المنطقي المقنع وليس العكس.
وإن المؤمن يستطيع أن يُحوِّل كل مصيبة إلى نعمة، وليس هذا كلاماً نظرياً عند المؤمن يخادع به نفسه, ويخدر به مشاعره, ولكنه حق لا شك فيه, يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن, إنَّ أمرَه كلَّه خير, وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن, إن أصابته سراءُ شكر، فكان خيراً له, وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيراً له).
نعم إن المؤمن إذا ابتلي فقدَ شيئاً من الدنيا, فإذا صبر على ذلك نال أجراً عظيماً في الآخرة, ولا شك أن ما أخذه من الآخرة أعظم بكثير مما فقده من الدنيا، فهو بذلك قد عوض الخسارة وربح أيضاً, وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن.