كيف نحسن الظن بالله، ونحن نعلم حال أنفسنا وما تستحقه؟!
كثيرًا ما يحدثنا العلماء والدعاة والصالحون عن حسن الظن بالله، وهو حال طيب لا ريب، يجب أن يسعى لإدراكه كل مسلم مؤمن.
غير أن للأمر بعدًا آخرًا، فعند إحساننا الظن بالله، تلوح لنا حقيقة أنفسنا، من تقصيرها وإذنابها، فيغلب حينها سوء الظن بالنفس على حسن الظن بالله.
حسن الظن بالله يعني انتظار ستره لأنه ستّار، لكن معرفة النفس، ومعرفة إذنابها، ومعرفة استهتارها بالذنب، والإتيان به مرات ومرات، بدون مراقبة ومحاسبة، لتدعو الإنسان إلى عدم انتظار ستر الله، بل وانتظار فضحه وكشفه.
حسن الظن بالله يعني انتظار لطفه لأنه اللطيف، لكن معرفة النفس، ومعرفة حقيقتها من الإذناب والتقصير والإسفاف، لتدعو الإنسان إلى عدم انتظار لطف الله، بل وانتظار الأسوأ منه
وكما يقول القائلون عند فضح إنسان وانكشاف ذنبه:
"لقد نفد نصيبه من الستر"
وإن لم تكن هذه الجملة مؤيدة بنص قرآني أو نبوي قاطع، إلا أنها تصيب قدرًا من الحقيقة.
فماذا ينتظر المذنب الذي يأتي ذنبه مرات ومرات، غير أن يذهب ستر الله عنه، وينتهي حلم الله به، ثم لا تكون إلا الفضيحة.
وبرغم ذلك، فعلى كل مذنب أن لا يتكئ على ذلك، ليدخل إلى فضاء الذنب، ويقول: ما زلت في البدايات، ولن يكون مع البدايات إلا الستر.
فكم من مذنب، فضحه الله في بدايات ذنبه، لحكمة يعلمها الله.
ورصيدُ الستر الذي نتحدث عنه ليس قانونًا إلهيًا تقطع به النصوص، ولكننا نشاهده بأعيننا في بعض القصص والحكايات، وهو - وإن كانت القصص والحكايات تشهد له - ليس مقطوعًا به في كل قصة وكل حكاية، فكم من قصة ذنب انتهت في بدايتها بالفضيحة والتشهير.
وحسن الظن بالله يعني انتظار لطفه لأنه اللطيف، لكن معرفة النفس، ومعرفة حقيقتها من الإذناب والتقصير والإسفاف، لتدعو الإنسان إلى عدم انتظار لطف الله، بل وانتظار الأسوأ منه.
من الدعاء الوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قوله: "تعوذوا بالله من جهد البلاد ودَرَك الشقاء وسوء القضاء"
ودَرَك الشقاء هو الذي نحن بصدد الحديث عنه إن لم يكن اللطف من الله، فحينها يخرج الإنسان من بلاء لبلاء، ومن سوء لسوء، كأنه وقع في حفرة يهوي فيها من دَرَك لدَرَك.
ومن أدعيته الواردة كذلك - صلى الله عليه وسلم – قوله: "اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك"
النفس التي لا تعرف الله وقت طلبه منها في تشريعه لا تنتظر من الله طلبها منه، لطفًا وسترًا ورحمة، بل تنتظر زوال النعمة وتحول العافية وفجاءة النقمة
وإن من لطف الله ألا تزول النعمة، وألا تتحول العافية، وألا تفجأ النقمة، لكن النفس التي لا تعرف الله وقت طلبه منها في تشريعه سبحانه وتعالى (افعل ولا تفعل)، لا تنتظر هي الأخرى من الله طلبها منه، لطفًا وسترًا ورحمة، بل تنتظر زوال النعمة وتحول العافية وفجاءة النقمة.
حسن الظن بالله لا يكون إلا لأولياء الله وعباده الصالحين، أولئك الذين أدوا حق الله عليهم، فانتظروا حقهم عليه.
وحق الله عليهم، هو الوقوف عند كل صغيرة وكبيرة، لمعرفة مراده فيها، والإسراع إليه، وحق الله لهم، ستر إن زلت الأقدام مرة على حين غفلة، ولطف إن أحاط بهم البلاء وشدّ، ورحمة وسكينة تتنزل عليهم من الله في كل مكان وحين.
أما أولئك الذين يعيثون في الأرض إذنابًا وتقصيرًا، ثم يظنون مع ذلك أن الله سيسترهم ويلطف بهم ويرحمهم و...
فأولئك في الحقيقة يسيئون الظن بالله ولا يحسنونه؛ لأنهم حينها يتجاهلون أنه الحكم العدل، وأنه المنتقم الجبار، فلا ينتظر الذي يستمرئ الذنوب ليلًا ونهارًا، ولا يعرف الله لا في قبض ولا في بسط، إلا الانتقام من الله؛ لأنه حكم عدل.
ومن حكمه وعدله، أنه يجازي على الحسنة بالحسنة، ويجازي على السيئة بالسيئة؛ فمن أحسن العمل، فله إحسان الجزاء سترًا ولطفًا في الدنيا، ورحمة ونعيمًا في الآخرة.
ومن أساء العمل، فله جزاء السوء، فضيحة وشقاء في الدنيا، وسخطٌ وجحيمٌ في الآخرة، وهذا هو منتهى العدل من الله، ومن يظن غير ذلك، فقد أساء الظن بالله، ولو ظن بأنه قد أحسن الظن.
وأما عن قولهم "تفاءلوا بالخير تجدوه" فهو ليس حديثًا نبويًّا، ولكنه حال يجب أن يكون عليه أهل الله؛ لأنهم أدوا ما عليهم، ولينتظروا ما لهم، وما لهم عند الله لن يكون بفضله ومنّه إلا خيرًا في الدنيا والآخرة.
أما أهل الذنب والتقصير، فكيف يتفاءلون، وكيف ينتظرون الخير، وليس لهم عند الله أي رصيد من خير، ليكون لهم به الخير.
على أهل الذنوب والتقصير ألا ينتظروا الخير، وعليهم أن يتوجسوا خيفة، وأن ينتظروا جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء، وزوال النعمة وفجاءة النقمة، فإن خافوا ذلك وتوجسوا منه، فعليهم أن يسارعوا إلى الله بالتوبة والإنابة، وليبدلوا حالهم حتى يبدل الله لهم أقدارهم وما ينتظرون.
حسن الظن بالله يستلزم بالضرورة حسن الظن بالنفس، فإن كان الله ستارًا فهل تستحق النفس بحالها ستره ذلك، وإن كان لطيفًا فهل تستحق النفس بحالها لطفه ذلك
"الجزاء من جنس العمل"
قانون دنيوي وأخروي، هو قانون يحكم كل العلاقات، تلك العلاقات التي بين العباد وبعضهم، وكذلك العلاقة التي بين العباد وربهم، فمن العباد من لو أقسم على الله لأبره، وهذا لا يتعامل مع الله بحسن الظن، بل إنه يرتقي إلى الثقة، والثقة المطلقة في استجابة الله له وتأييده إياه.
ومن العباد من لو ظل العمر كله يدعو الله فلن يستجيب له ولن ينظر إليه، فكيف يستجيب الله لمن يدعوه، حتى ولو كان الدعاء بتضرع وافتقار، ثم يمضي بعد دعائه لذنوبه، كأنه ليس لله إلا الدعاء له والطلب منه، وليس له الأمر والنهي في كل صغير وكبير.
تحكي لنا كتب التزكية عن قصص للأولياء والصالحين، فيها من حسن الظن بالله، الذي يصل إلى الثقة التامة المطلقة، كأن يمشي أحدهم على الماء، بدون تهيّب ولا تردّد، وكأن يسير الواحد منهم في البراري دون طعام وماء لأيام وأسابيع.
وهذا كله، ليس مرده، حسن الظن بالله ولا الثقة فيه، مجردًا عن حال الإنسان، ودرجة قربه من ربه، ولو فعلها غير هؤلاء، من أهل الذنوب والتقصير، فلن يكون له إلا الغرق والهلاك، مهما بلغ حسن ظنهم المجرد، ومهما بلغت ثقتهم المجرده.
حسن الظن بالله يستلزم بالضرورة حسن الظن بالنفس، فإن كان الله ستارًا - وهو كذلك حقًا - فهل تستحق النفس بحالها ستره ذلك، وإن كان لطيفًا - وهو كذلك حقًا - فهل تستحق النفس بحالها لطفه ذلك، وإن وإن وإن...
أما حسن ظن أولئك البطالين والمذنبين بالله، مجردًا من النظر للنفس وحالها وما تستحقه، فهو وهم وزيف، بل هو سوء ظن بالحقيقة، في الله الحكيم العادل.