قال الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} (سورة التوبة).
في قصة نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما أخبر خديجة عليها السلام بالخبر، قال ورقة بن نوفل: (هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ نُزِّلَ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟" فَقَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) (البداية والنهاية).
مع نهاية شهر صفر في بداية العام الرابع عشر من البعثة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركًا مكة المكرمة، مؤقتًا، وعينه على العودة الميمونة. هاجر رسول الله بعد توثيق العهد بالدماء والأرواح مع أنصار الله وكتيبة الإسلام. هاجر رسول الله ومعه الكوكبة المباركة من خيرة الناس على وجه الأرض.
وقد اعتمد الرجل المبارك عمر بن الخطاب عام الهجرة بداية لتقويم الأمة الإسلامية، إشارة إلى أن التاريخ الإسلامي يبدأ في الحقيقة منذ لحظة التمكين في الأرض لجماعة المؤمنين.
ولكن... لماذا هاجر رسول الله تاركًا مكة المكرمة أحبَّ بلاد الله إليه؟
هاجر رسول الله بعدما وقفت قريش بكل ما تملك في وجه المشروع الذي يحمله؛ وقفت بكل جهل وغباء أمام المشروع الحضاري، واختارت، بلا وعي، دينًا سخيفًا، وفكرًا مشوهًا، ومشروعًا فاشلًا.
هاجر رسول الله بعدما تأكد أن مكة لم تعد مكانًا صالحًا لتأسيس مجتمع فاضل، ولم يجد غير يثرب التي تغُصُّ باليهود، وتكتوي بثأر حروب أهلية طاحنة بين الأوس والخزرج. لكن القدر هو القدر. وإذا أراد الله شيئًا... هيّأ له أسبابه وقدّر له أوقاته.
قال جابر بن عبد الله الأنصاري: "فقمنا إليه (رسول الله) فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زُرارة، وهو من أصغرهم، فقال: رويدًا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقةُ العرب كافة، وقتلُ خياركم، وأن تعضّكُمُ السيوف. فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك، وأجركم على الله. وإما أنتم تخافون من أنفسكم جبينة. فبينوا ذلك؛ فهو أعذر لكم عند الله. قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبدًا، ولا نسليها (نتركها) أبدًا. قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة".
وفي رواية؛ قال صلى الله عليه وسلم: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم"، فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أزرنا. فبايعنا يا رسول الله؛ فنحن والله أهل الحرب، وأهل الحلْقة (السلاح)، ورثناها كابرًا عن كابر. فاعترض القول أبو الهيثم بن التيّهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالًا، وإنّا قاطعوها (يعني اليهود). فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدَعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم". (البداية والنهاية بتصرف).
هاجر رسول الله ليتخلص من رؤية وجه أبي جهل وأشباه أبي جهل، وليقدم للناس بديلًا حضاريًّا يتمثل في قيادة واعية عادلة زاهدة قريبة من الناس وهمومهم.
هاجر رسول الله ليؤسس المجتمع الفاضل الذي كان مقدمة منطقية لبناء أعظم دولة في التاريخ، ولتصحيح مسار الحضارات، وتوجيه البوصلة نحو تحقيق قيم العدل والحرية، وتحرير الإنسان في الأرض... كل الأرض من العبودية للبشر، إلى العيش الكريم في ظل العبودية لرب البشر. وهذا ما تحقق في عهود متطاولة على مر الزمان، رغم ما كان يكتنف المسيرة من محطات انتكاس وتراجع في الدور الحضاري أحيانًا.
هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة، وعينه على بيت المقدس، الذي كان يرزح تحت الحكم البيزنطي وديانته الغريبة، فقد كان يعلم منذ البداية: أن العِقد الجميل لن يكتمل إلا بالأرض المقدسة؛ فوجّه جيوشه نحو الشام إيذانًا ببداية مرحلة التحرير.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم أن الحقوق لا تنتزع إلا بالقوة، وأن العالم لا يفهم إلا لغة الأقوى؛ فوجه السرية وراء السرية إلى الشمال، إلى أن سطر الصحابةُ الكرام أول ملاحم العزة على أرض مؤتة. ولم يلتحق رسول الله بالرفيق الأعلى حتى جهز جيشًا جديدًا إلى الشام، إلى فلسطين، إلى الأرض المقدسة، وقال لأسامة بن زيد: "سر إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش" (تاريخ الإسلام).
وتحت الضربات الواثقة لجحافل الإسلام انقضى عهد الدولة الساسانية في العراق وفارس وخراسان، وانهار الوجود البيزنطي في الشام، ودخل المسلمون بيت المقدس تحت راية أمير المؤمنين؛ الراية العزيزة التي تجمع شتات الأمة، وتحفظها من ضيعة الأيتام على مائدة اللئام.
نعم.. هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكون كلمة الله هي العليا، وحمل السلاح وقاتل ليعم السلام، وأسس المجتمع الفاضل الذي تحكمه القيم الأخلاقية، فقام بواجبه وأدى ما عليه، ونحن نشهد.
قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} (سورة التوبة)
إنّ الرسولَ لنورٌ يُستضاءُ به *** مهنّدٌ من سيوفِ اللهِ مسلولُ