كيف تُعدّ الهجرة النبوية درسًا في حسن التخطيط؟

الرئيسية » بصائر الفكر » كيف تُعدّ الهجرة النبوية درسًا في حسن التخطيط؟
madina18

من جديد تحل علينا السنة الهجرية الجديدة لتذكرنا بحادثة الهجرة (والتي حدثت في صفر على الأرجح) حاملة في طياتها العديد من الدروس والعبر التي طالما عكف الكثير من العلماء والمفكرين على سبر أغوارها، وربطها بواقعنا.

كيف استطاع النبي ﷺ أن ينتقل بالمسلمين من حالة الاستضعاف إلى حالة التمكين، ومن حالة تحمل الأذى إلى حالة الحكم والسيطرة والقوة خلال بضع سنوات.

الدروس والعبر المستفادة من هذه الذكرى لا تحصى، وأكبر من أن تجمع في مقال أو كتاب؛ لأن السيرة النبوية هي منبع للاقتداء في جميع الأزمان، وبالتالي، فإن الأفهام ستظل تتجدد بناء على اختلاف التحديات وتنوعها .

ومن الأمور التي ينبغي تسليط الضوء عليها مهارة التخطيط، كيف خطّط النبي ﷺ للهجرة النبوية بكامل تفاصيلها، بل خطّط لما بعدها، ولم يكن تفكيره -عليه الصلاة والسلام- محصورًا بالوصول بأمان إلى المدينة ثم لكل حادث حديث!

مع بالغ الأسف، كثير من الناس يتعاملون مع الأمور بمنطق "البركة" وترديد "ربنا بعين وقتها" بدون الأخذ بعين الاعتبار العواقب والنواتج والتي قد تكون مكلفة وقد تغيّر مجرى الحياة إلى ما لا نرغب به ولا نرجوه

مع بالغ الأسف، كثير من الناس يتعاملون مع الأمور بمنطق "البركة" وترديد "ربنا بعين وقتها" بدون الأخذ بعين الاعتبار العواقب والنواتج والتي قد تكون مكلفة وقد تغيّر مجرى الحياة إلى ما لا نرغب به ولا نرجوه، والأمثلة والشواهد كثيرة منها:

تجد الشخص يريد الزواج بدون تخطيط وتفكير كيف يعيش ويلبي احتياجات أسرته، أو يتخبط في قراراته ولا يرتب أولوياته في اختيار زوجه أو كيفية الفرح، مما يوقعه في مشكلة الغرق في الديون، أو الطلاق لعدم القدرة على الاستمرار.

وآخر، يستقيل من عمله بدون تفكير بالعواقب، ظانًّا أن فرص العمل متاحة "بكبسة زر"، ثم يصبح عالة على الآخرين، ويلقي بمن يعول في مهب الريح!

وثالث يغترب بدون التفكير بسيناريو الإقالة والعودة، فتضيع غربته بعد سنوات هباء، أو يصل إلى الخمسينيات والستينيات من العمر وهو لا يملك من الدنيا شيئًا سوى الندم على ما ضاع من حياته بدون فائدة.

كذلك في العمل المؤسسي والحزبي، تجد البعض يسعى لتقليد تجربة ناجحة هنا أو هناك بحذافيرها، لدرجة ترديد نفس المقولات والنصائح، بدون الأخذ بعين الاعتبار أن هناك اختلافًا بين دولة وأخرى، وبين موظف وآخر، وبين زمن وآخر، ناهيك عن القوانين وطبيعة الشرائح التي تتعامل معها والمنافسة والوضع الاقتصادي أو السياسي وغير ذلك.

التخطيط في الهجرة

كما هو معلوم، فإن القارئ لقصة سيرة هجرة النبي ﷺ يجده أنه استخدم العديد من الأساليب لإنجاح الهجرة، وإنجاح بناء دولته التي أسسها:

التخطيط لإنجاح الهجرة:

1. قبل الهجرة بسنوات، كان النبي ﷺ قد أرسل العشرات من الصحابة إلى الحبشة، ولم يكن اختيار المكان عبثًا -كما هو معلوم– وبالتالي، كان الهدف حماية جزء من الجماعة المؤمنة، إضافة إلى كسب أرض إضافية لنشر الدعوة، وإبعاد هذه الفئة عن المواجهة من قريش. لكن في نفس الوقت لم يكن النبي يريد أن يخرج بنفسه خارج الجزيرة العربية، ولهذا لم يذهب هو إلى هناك.

2. تجهيز الوسائل الضرورية للهجرة؛ كي لا يحصل أي ارتباك مما يؤثر في نجاح الهجرة، وبحسب بعض العلماء فإن النبي ﷺ كان مستعدًا للهجرة قبل موعدها بأربعة شهور.

3. تقسيم الأدوار، وكما هو معلوم فقد اختار النبي ﷺ أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- ليكون رفيقه في الهجرة، وكان دور أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- تزويد النبي ﷺ وأبي بكر -رضي الله عنه- بالطعام، وعبد الله بن أبي بكر تقصي الأخبار ونقلها إلى النبي؛ ليكون على اطلاع بما يجري داخل قريش، وعامر بن فهيرة ليزيل آثار الأقدام المؤدية إلى الغار، وعبد الله بن أُريقط -الذي كان مشركًا- كدليل على الطريق؛ لأنه كان خبيرًا في هذا الأمر.

4. المخادعة، مثل اتخاذ طريق مختلف عن الطريق المعتاد للهجرة، وتكليف علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالنوم في فراش النبي ﷺ.

5. الطلب من معظم الصحابة أن يهاجروا إلى المدينة سرًا قبل قدومه؛ كي لا تمنعهم قريش من الهجرة في حال هاجر النبي ﷺ قبلهم، وبالتالي بقاء جزء من المسلمين في مكة تحت اضطهاد قريش وسيطرتهم. ولهذا كان دور القائد أن يطمئن على أن الأفراد وصلوا إلى وجهتهم بسلام.

6. إرسال مصعب بن عمير -رضي الله عنه- إلى المدينة لتمهيد وصوله إليها؛ لتأدية مهمة إيصال نور الإسلام لأهل المدينة، فيؤمنوا بهذا الدين، مما يسهل مهمة إقامة الدولة، ولم يعمل مصعب بن عمير وحده، بل كان يعمل مع أسعد بن زرارة، وهو ابن المدينة وأعرف بطبائع أهلها وكيف تدخل الدعوة إلى نفوسهم.

وحينما كانت بيعة العقبة الثانية اطمأن النبي ﷺ أن المدينة المنورة باتت مهيأة للإسلام.

التخطيط لإنجاح الدولة:

1. الجانب الديني: الاهتمام بما يجمع الناس على دينهم، فأسس مسجد قباء، ثم تأسيس و بناء المسجد النبوي، ليكون قاعدة أساسية لجمع القلوب وتقوية إيمانها، وفي نفس الوقت توحيد المسلمين وتقوية صفهم .

2. الجانب الاجتماعي: لأن أيّة دولة لا يمكن أن تنهض أو تقوم إلا على أساس من الوحدة وهو ما يستدعي المؤاخاة بين المسلمين (المهاجرين والأنصار) فقد قامت الأخوة على الحق والمواساة، بل كانت العلاقة أقوى من أثر قرابة الرحم.

3. الجانب الإداري: ويتمثل بكتابة وثيقة المدينة التي تضبط العلاقة بين شرائح المجتمع المختلفة (المسلمون – اليهود – المشركون) وهي بمثابة الدستور في المفهوم الحالي والذي يُعنى بوضع الخطوط الكلية للنظام داخل الدولة ويبين الحقوق والواجبات.

4. الجانب الاقتصادي: ويتمثل بالاستقلال عن سوق اليهود بإنشاء سوق خاص للمسلمين، وشراء بئر رومة ليكون الماء خارجًا عن سيطرة غير المسلمين، إضافة لتنظيم أحكام التعامل التجاري وتشجيع الصحابة على العمل.

إن هذه الأمور لم تكن لتتم لو لم يكن النبي ﷺ عالمًا بالتحديات والصعوبات، سواء خلال الهجرة؛ فهو يعلم أن قريشًا لن تدعه يذهب إلى المدينة، أو بعد الهجرة، فقد كان المجتمع الجديد في المدينة بحاجة إلى من يدير شؤونه تحت راية الإسلام بترتيب وبدون عشوائية

إن هذه الأمور لم تكن لتتم لو لم يكن النبي ﷺ عالمًا بالتحديات والصعوبات، سواء خلال الهجرة؛ فهو يعلم أن قريشًا لن تدعه يذهب إلى المدينة، وستسعى بكل جهدها لإطفاء نور الإسلام، أو بعد الهجرة، فقد كان المجتمع الجديد في المدينة بحاجة إلى من يدير شؤونه تحت راية الإسلام بترتيب وبدون عشوائية، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - على دراية بوضع المدينة وتحدياتها، قبل وصوله إليها، وهو ما سهل عملية التخطيط والإسراع في بناء الدولة .

ماذا بعد..

إننا في خضم انشغالاتنا الحياتية نحتاج إلى التأمل والتعامل بحكمة مع الأمور، والكثير من الناس يعاني من عدم إكمال المشاريع أو إهدار الوقت بدون تحقيق أي شيء، إضافة إلى سوء التعامل مع حالات الطوارئ والاستسلام والدخول في مرحلة الإحباط واليأس، وكل هذا بسبب غياب التخطيط!

إن هذا الحدث المهم دعوة لكل فرد منا لأن يخطط لنفسه بما يجعل الرؤية واضحة، وبما يحدد الأولويات مما يجعل الجهد المبذول مفيدًا ومثمرًا وبنفس الوقت يقلل من أي مخاطر تحدث نتيجة للأمور غير المتوقعة.

وهذا يتطلب فهم الوضع الحالي بتفاصيله أو ما يعرف بالإنجليزية بـــــ(SWOT) وهي اختصار لــــــ Strengths, Weaknesses, Opportunities, and Threats أي تحديد نقاط القوة والضعف والفرص والمخاطر. وهذا ربما يكون أكثر إلحاحًا في المؤسسات للنظر إلى المستقبل ووضع الخطط بناء عليه والأفضل أن يكون بمشاركة جميع الأفراد أصحاب العلاقة؛ لتكون الصورة أشمل وأكمل.

أما على الصعيد الفردي فلابد أن يكون المرء صريحًا مع نفسه؛ لأن الوضوح هو أهم خطوة لحسن التخطيط والنجاح فيما بعد لأن الخطوات ستكون أوضح، ولا بأس من مراجعتها كل فترة وتعديل بعضها بناء على تغير الظروف ومستجداتها .

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب فلسطيني، حاصل على الدكتوراه في الفقه وأصوله، متخصص في موضوع السياسة الشرعية والتربية والتعليم.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …