على خلاف ما كان عليه الأمر عند الأوّلين، بل وقبل عقود قليلة من الزّمان؛ حيث كان آباؤنا وأجدادنا أحرص ما يكونون على طهارة قلوبهم وسلامة صدورهم، فإنّنا في هذا الزّمان –إلا من رحم الله منّا- ما عدنا نهتمّ بأمر القلوب وأدوائها، بعد أن قلّ اهتمامنا بالأخلاق والمعاملات..
لقد دبّت البغضاء بيننا إلا من رحم الله منّا.. امتلأت قلوبنا بالحسد والبغضاء بعضنا لبعض، واستشرت الخصومات والعداوات، وامتلأت المحاكم بالقضايا والمنازعات، وأصبحنا نسمع بابن لا يكلّم أباه وأخ لا يكلّم أخاه، وانتشرت جرائم القتل انتشارا مروّعا، حتى سمعنا وقرأنا عن الجار يقتل جاره والقريب يقتل قريبه، بل وسمعنا عن الزّوج يقتل زوجته والابن يقتل أباه!
أصبحنا نرى ونسمع عن مظاهر وأحوال تدلّ على أنّ قلوب كثير منّا امتلأت بهمّ الدّنيا وخلت من همّ الآخرة، وشحنت بالحقد والضّغينة والحسد والبغضاء..
أصبح الواحد منّا يحقد على أخيه لأتفه الأسباب؛ مسلم يعادي أخا له مسلما بسبب أنّه نسي دعوته إلى وليمة أو عرس، أو أنّه اتّصل به عن طريق الهاتف فلم يردّ عليه بسبب شاغل من الشّواغل أو أنّه سلّم عليه فلم يردّ بسبب أنّه لم يسمعه ولم يره. يعادي أخاه لأنّه تكلّم بكلمة لم يقصد بها سوءًا، لكنّ الشّيطان جعله يحملها على أسوأ المحامل وأوغر صدره على أخيه.. يحسد أخاه لأنّه سبقه إلى وظيفة أو شراء سيارة أو قطعة أرض.. مسلمة تحسد مسلمة لأنّها ارتدت في حفلة العرس فستانا أغلى من فستانها أو تحلّت بذهب أثمن وأفضل من ذهبها، بسبب أنّها لم تدعها إلى عرس ابنها، بسبب أنّها لم تعُدها في مرضها أو مرض زوجها أو ولدها… وهكذا...
أسباب تافهة ينفخ فيها الشّيطان ثمّ يصوّر لكلّ طرف أنّه هو المحقّ وهو المظلوم وأنّ الطّرف الآخر هو الظّالم، ولا يزال يشحن قلب هذا وقلب ذاك حتى يتدابرا ويتقاطعا ويطلق كلّ واحد منهما لسانه بغيبة أخيه وربّما يبهته ويكذب عليه.. وتمرّ عليهم الأيام والأشهر والسّنوات وهما متصارمان متقاطعان لا يكلّم أحدهما الآخر..
نشطت أوكار السّحرة ونافست عيادات الأطبّاء، بسبب أنّ القلوب امتلأت بالحقد والحسد، ونسينا أنّنا مسلمون يفترض في كلّ واحد منّا أن يحبّ الخير لأخيه كما يحبّ لنفسه، ويكره الشرّ لأخيه كما يكره لنفسه
كلّ واحد منهما ينظر إلى الآخر على أنّه شيطان وينظر إلى نفسه على أنّه ملاك.. وربّما يتحاشى كلّ منهما إلقاء السّلام على كلّ مجمع يكون فيه أخوه الذي أصبح عدوّه وخصيمه!
بل قد يصل الأمر إلى كيد أحدهما للآخر، ويصل الشّيطان بأحدهما إلى أن يحرّضه على المكر لأخيه، لينتقم منه ويشفي غليه ويطفئ نار الحقد التي أشعلها الشّيطان في صدره؛ فربّما يدبّر له مكيدة ويبهته بما لم يفعل ويتسبّب في سجنه أو أذيته، وربّما يسوّل الشّيطان للمسلمة أن تطرق أبواب السّحرة والمشعوذين لتلحق الأذى بأختها المسلمة بعد أن امتلأ قلبها غلا وحسدا عليها..
لقد استشرت هذه الظّاهرة في مجتمعنا المسلم في السّنوات الأخيرة ونشطت أوكار السّحرة ونافست عيادات الأطبّاء، بسبب أنّ القلوب امتلأت بالحقد والحسد، ونسينا أنّنا مسلمون يفترض في كلّ واحد منّا أن يحبّ الخير لأخيه كما يحبّ لنفسه، ويكره الشرّ لأخيه كما يكره لنفسه، مصداقا لقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه”.
لماذا يا ترى أصبح بعضنا يكره بعضا؟ لماذا نعصي الرّحمن الذي أمرنا بالتوادّ والتسامح، والتراحم والتّصالح،
لماذا كلّ هذا؟
لماذا يا ترى أصبح بعضنا يكره بعضا؟ لماذا نعصي الرّحمن الذي أمرنا بالتوادّ والتسامح، والتراحم والتّصالح، فقال جلّ شأنه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} [الحجرات: 10]، ونطيع الشّيطان الذي يفرح غاية الفرح عندما ينجح في إيغار الصّدور وإيقاد العداوات وإشاعة الخصومات، {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء} [المائدة: 91].. لماذا أصبح بعضنا لا يحتمل قرب بعض في الطّرقات والأسواق وحتى في بيوت الله؟ أصبحنا لا يحبّ بعضنا قرب بعض في صفوف الصّلاة، ومنّا من يريد أن يصلّي وبينه وبين أخيه في الصفّ مسافة ولا يقبل من أخيه أن تمسّ قدمُه قدمَه أو يحاذي منكبُه منكبَه؛ تقام الصّلاة فتفاجأ بأحدهم يرفع صوته ويتأخّر في الصفّ وربّما يترك المسجد، بسبب أنّ أخا من إخوانه قرّب قدمه أو كتفه إليه أو سدّ فرجة تركها بينه وبين من بجانبه! فلماذا سمحنا للشّيطان بأن يملأ قلوبنا بالحقد إلى هذا الحدّ؟
لقد صدق فينا ما أخبر عنه المصطفى –عليه الصّلاة والسّلام- حينما قال: “دبّ إليكم داءُ الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء وهي الحالقة أما إني لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين”.. والله إنّه لأمر مؤسف حقا أن يكون حسد بعضنا لبعض أشنع وأبشع من حسد إبليس لآدم؛ إبليس حسد آدم –عليه السّلام- على مكانته عند الله، ونحن لا نتحاسد على المكانة عند الله وإنّما يحقد بعضنا على بعض ونتحاسد على الدّنيا.. إبليس حسد أبانا على اصطفاء الله له، ويحسدنا على الجنّة ويسعى جاهدا أن يبعدنا عن طريقها، ونحن يحسد بعضنا بعضا على لعاعة الدنيا الفانية؛ نتحاسد على السّكنات وعلى الأراضي والسيارات، ونتحاسد على النّجاح في مسابقات التّوظيف… فلماذا؟ الشّيطان الرّجيم أحقّ أن نعاديه لأنّه أعلن لنا العداوة وأظهر لنا البغضاء، يقول ربّنا جلّ شأنه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير} [فاطر: 6]
كلّنا نخطئ وننسى ونغفل، وليس يليق أبدا أن يغضّ الواحد منّا الطّرف عن أخطائه وعيوبه ويستصغرها ويستهين بها، وينظر –في المقابل- إلى أخطاء وعيوب إخوانه من حوله بالمجهر ويستعظمها.. كلّنا خطّاؤون، ومن ذا الذي ما ساء قطّ ومن ذا الذي له الحسنى فقط؟
هكذا نطهّر قلوبنا من هذا الدّاء
آن الأوان أن نلتفت إلى قلوبنا وننظر ما الذي تحمله، وإلى صدورنا ما الذي تكنّه.. علينا أن نجعل نصب أعيننا بأنّ أحدنا لن يدخل الجنّة حتى يطهّر قلبه ويغسله من حسد إخوانه ومن الحقد عليهم، يقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: “والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا، ألا أدلكم على ما تحابون به، افشوا السلام بينكم”.. أنجع دواء لإخراج الحقد والحسد من القلوب وغرس المحبّة فيها، إفشاء السّلام؛ أن يجعل العبد المسلم إلقاء السّلام على إخوانه خلقا وديدنا، يبتغي به الأجر والمثوبة عند الله والمودّة عند إخوانه المسلمين من حوله.
علينا أن نقرع أنفسنا ونذكّرها من حين إلى آخر بأنّ الإيمان والحسد لا يجتمعان في جوف؛ فمتى دخل الحقد والحسد إلى قلب عبد من عباد الله، بدأ الإيمان يخرج منه، حتى لا يبقى منه إلا القليل.. يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “لا يجتمع في جوف عبد غبار في سبيل الله وفيح جهنم، ولا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد”.. علينا أن نوطّن نفوسنا وقلوبنا بأنّنا بشر نعيش بين البشر وليس بين الملائكة.. كلّنا نخطئ وننسى ونغفل، وليس يليق أبدا أن يغضّ الواحد منّا الطّرف عن أخطائه وعيوبه ويستصغرها ويستهين بها، وينظر –في المقابل- إلى أخطاء وعيوب إخوانه من حوله بالمجهر ويستعظمها.. كلّنا خطّاؤون، ومن ذا الذي ما ساء قطّ ومن ذا الذي له الحسنى فقط؟ لننتبهْ إلى نزغات الشّيطان الذي يخفي عن كلّ واحد منّا عيوبه ولو كانت كبائر ويبرز له عيوب إخوانه ويعظّمها في عينه ولو كانت من اللّمم ليحمله على إساءة الظنّ بهم وعلى غيبتهم.. لا ينبغي أبدا للعبد المؤمن أن يسارع إلى حمل إخوانه المسلمين على أسوأ المحامل وعلى إساءة الظنّ بهم، لأنّ سوء الظنّ أكذب الحديث.. يقول الحقّ تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، ويقول النبيّ عليه الصّلاة والسّلام: “إيَّاكم والظنَّ، فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً”.
لا ينبغي أبدا للعبد المؤمن أن يلقي بسمعه للنّميمة والنمامين الذين يقبلون لأنفسهم أن يتحوّلوا إلى شياطين تنقل السّوء بين عباد الله وتوغر الصّدور. من نقل إليك –أخي المؤمن- شيئا فاعلم علم اليقين أنّه لا يريد لك الخير، إنّما يريد أن يستمتع بخلافك وخصامك مع أخيك، ومن نقل إليك فكن على يقين بأنّه ينقل عنك، فلا تطعه ولا تصغ إليه وقل له: “يغفر الله لي ولأخي”.. انظر إلى نبيّ المرحمة عليه الصّلاة والسّلام كيف يعلّمنا صمّ آذاننا عن سماع النّميمة، يقول: “لا يبلغْني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً، فإنّي أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر”.
من أعظم أسباب تطهير القلوب من الحقد والضّغينة والحسد، قراءةَ القرآن الكريم كلامِ الله
لنتعلّم ولنعلم أنّ من أعظم أسباب تطهير القلوب من الحقد والضّغينة والحسد، قراءةَ القرآن الكريم كلامِ الله، يقول الحقّ جلّ شأنه: {يَا أيُها النّاسُ قَد جَآءَتكُم مَوعِظَةٌ مِن رَبِكُم وَشِفَآءٌ لِمَا فىِ الصُدُورِ} [يونس: 57]. نعم القرآن أعظم دواء لأمراض القلوب وضغائن الصّدور، ومن أسباب تطهير القلوب والصّدور -أيضا- إدامة الدّعاء والرّجاء؛ فيدعو العبد المؤمن ربه دائماً أن يجعل قلبه سليماً لإخوانه، ويدعو لهم أيضاً، قال تعالى: {وَالذِّينَ جَآءُو مِن بَعدِهِم يَقُولُونَ رَبَنَا اغفِر لَنَا وَلإخوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجعَل في قُلُوبِنَا غِلاً لِلّذِينَ ءَامَنُوا رَبَنَا إنّكَ رَءُوفٌ رّحِيم} [الحشر: 10].. ومن الأسباب –أيضا- بذل الصّدقات؛ فالصدقة تطهّر القلب من التعلّق بالدّنيا، وتُزكيه من الحقد والحسد لعباد الله المؤمنين، يقول الحقّ تبارك وتعالى: {خُذّ مِن أموالِهم صَدَقَةً تُطَهِرُهُم وَتُزَكِيِهِم بِهَا} [التوبة: 103]، ومنها أيضا ترك كثرة السؤال وتتبع أحوال الناس، امتثالاً لقول النبي عليه الصّلاة والسّلام: “من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه”
ومن الأسباب المعينة على صفاء القلوب وجلاء الصّدور أيضا أن يهتمّ العبد المؤمن بقلبه بإصلاحه ومداواته أكثر من اهتمامه ببدنه وظاهره.. يقول الحبيب المصطفى عليه الصّلاة والسّلام: “ألا إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”.. ليس يليق أن يهتمّ الواحد منّا بنظافة مظهره الذي هو محلّ نظر المخلوقين ويغفل عن نظافة قلبه وصلاح عمله الذي هو محلّ نظر الخالق سبحانه.. يقول عليه الصّلاة والسّلام: “إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ”.. المحلّ الذي ينظر إليه الخالق جلّ شأنه أولى بالنّظافة والطّهارة من أيّ محلّ آخر.
كتب ذات صلة بالموضوع
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- الشروق أون لاين