لم تكن قصص الأنبياء يومًا، قصصًا لمجرد الاستماع والاستمتاع، بل لنأخذ منها عبرًا ودروسًا للحياة.
قال تعالى: {نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَیۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَاۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَـٰفِلِینَ} [يُوسُف: ٣]
تكررت قصص الأنبياء كثيرًا في القرآن الكريم والسنة النبوية، لكن قصة نبي الله إبراهيم مع ولده، يبقى لها مكانة خاصة ومميزة عن باقي القصص، ونحن نتذكرها كل عام.
فماذا يمكننا أن نتعلم منها كمربين؟
لنبدأ من الآية الكريمة: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡیَ قَالَ یَـٰبُنَیَّ إِنِّیۤ أَرَىٰ فِی ٱلۡمَنَامِ أَنِّیۤ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ یَـٰۤأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِینَ} [الصَّافَّات: ١٠٢]
علاقتنا الطيبة مع أولادنا تساعدنا لنكون قدوة لهم؛ لأنهم إن أحبونا اقتدوا بنا، ويسهل عليهم الاستجابة لطلباتنا
بلغ معه السعي
لنلاحظ كلمة "معه"، قال تعالى فلما بلغ معه - أي مع إبراهيم – السعي؛ فالآية الكريمة لا تتكلم عن اسماعيل فقط وأنه قد كبر وأصبح قادرًا على السعي، وإنما تتكلم عن سعيه مع والده، بتدبر الآيات وبالرجوع إلى كتب التفسير، يمكننا القول إن ذلك يعني بناء علاقة قوية مثمرة بين الابن ووالده - عليهما السلام - وبالتالي كانت هذه العلاقة سببًا من أسباب استجابة الولد لأوامر والده، فعلاقتنا الطيبة مع أولادنا تساعدنا لنكون قدوة لهم؛ لأنهم إن أحبونا اقتدوا بنا، ويسهل عليهم الاستجابة لطلباتنا، وإن كانت طلباتنا في الواقع هي أوامر شرعية مثل أمرهم بالصلاة أو الصيام، فلا نتوقع أن نأمرهم بغلظة ثم يستجيبوا، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، قال له الله تعالى: {فَبِمَا رَحۡمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِیظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّوا۟ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِینَ} [آل عِمۡرَان: ١٥٩]
إني أرى في المنام أني أذبحك
في هذا المقام أتذكر الحديث الشريف: «جاء الحسن والحسين يسعيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فضمهما إليه وقال: إن الولد مبخلة مجبنة» [رواه ابن ماجه]
فيما يقول العلماء فإن ذلك يعني أن الوالد يريد أن يتصدق، ثم يتذكر ولده فيكف عن الصدقة ليوفر المال لولده، ويريد أن يجاهد في سبيل الله ثم يتذكر ولده فيخشى أن يموت ويتركه، فيكف عن الجهاد، بينما في قصة ابراهيم - عليه السلام - نجد أنه بذل ابنه لله تعالى، برغم أنه رُزِق به على كبر، فهل نتعلم منه أن يكون الله ورسوله أحب إلينا من أولادنا؟
هل نتعلم من إبراهيم عليه السلام كيف نشاور أولادنا بأمور الحياة؟ نشاورهم كيف يكون مخطط يومنا، أين نقضي العطلات، نشاورهم في اختيار ملابسنا وليس ملابسهم فقط
فانظر ماذا ترى
بالرغم من أنه أمر رباني، ولا يُتوقع من النبي الكريم ابراهيم - عليه السلام - أن يمتنع عن تنفيذ هذا الأمر لو رفضه ابنه، وبرغم أنه يعرف ويعلم حق اليقين أن الأوامر الربانية ليس معها رأي، لكنه استشار ابنه، ربما لمعرفته حال ابنه أولًا وأنه سيقول سمعًا وطاعة، ولمعرفته أن الأوامر عندما تكون بالاتفاق حتى وإن كان اتفاقًا ظاهريًا فقط، فإنها تكون أهون على النفس بالتطبيق، فهل نتعلم من إبراهيم عليه السلام كيف نشاور أولادنا بأمور الحياة؟ نشاورهم كيف يكون مخطط يومنا، أين نقضي العطلات، نشاورهم في اختيار ملابسنا وليس ملابسهم فقط.
هذا المشاورات تعلم أولادنا كيف يتخذون قرارات، وتعرّفهم أن لهم قيمة في الحياة، وتبني علاقة أقوى بيننا وبينهم.
ستجدني إن شاء من الصابرين
لنلاحظ، لم يقل اسماعيل عليه السلام: سأصبر، وإنما قال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين، هنا أيضًا نلمح قوة العلاقة والاهتمام بين الولد والوالد، ورد في تفسير التحرير والتنوير: وفي ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِن عِبْءِ ما عَسى أنْ يَعْرِضَ لِأبِيهِ مِنَ الحُزْنِ لِكَوْنِهِ يُعامِلُ ولَدَهُ بِما يَكْرَه.
غالبًا عندما نهتم بأولادنا، تكون النتيجة أن يهتموا بنا، فما نزرعه سنحصده، وإن أردنا من أولادنا سلوكًا معيّنًا، فلنبدأ نحن به.
ما أجمل أن يشترك الوالدان مع الأولاد في العبادات، مثل تخصيص وقت للعائلة تتدارس القرآن الكريم والسنة النبوية أو أن يشتركوا في تجهيز وجبات غذائية، ألبسة وغيرها لتوزيعها على المحتاجين
لنأتِ إلى الآية الثانية:
{وَإِذۡ یَرۡفَعُ إِبۡرَ ٰهِيـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَیۡتِ وَإِسۡمَـٰعِیلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّاۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ} [البَقَرَة: ١٢٧]
ورد في البخاري: «ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ. قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ. قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا. قَالَ النّبي - صلى الله عليه وسلم: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}» [البخاري: 3364]
ما أجمل أن يشترك الوالدان مع الأولاد في العبادات، مثل تخصيص وقت للعائلة تتدارس القرآن الكريم والسنة النبوية أو أن يشتركوا في تجهيز وجبات غذائية، ألبسة وغيرها لتوزيعها على المحتاجين.
هذه بعض الدروس التي نستفيدها من قصة ابراهيم الخليل عليه السلام مع ولده، وبالتأكيد لو فكرنا فيها أكثر، وتدبرناها أكثر، لوجدنا فيها دروسًا أكثر، لذا أشجعكم على تدبرها.