إن أمتنا الإسلامية تمر بمحاولات جادة ومدروسة لتغييب الشريعة، وهدم الثوابت، وطمس الهويَّة، والتنكر لكل صفحة مُضيئة من تاريخ الأمة الإسلامية، والسخرية من كل مظهر من مظاهر ديننا الحنيف، بل وإرجاع كل ما تعانيه أمتنا الآن من تخلف عن ركب الحضارة إلى تمسكها بما جاء به الشرع وإلى سيرها على ما سار عليه سلفها الصالح... إلى غير ذلك من أباطيل وأراجيف وتُرَّهات ما أنزل الله بها من سلطان!
إن واجب الوقت - والحال كذلك - يُوجب على المخلصين في كل زمان ومكان أن يبذلوا جهدهم لتفنيد كل هذه الشبهات، ولإزالة كل ما علق بالدين وليس منه، ولتقديم صورته الناصعة المشرقة للبشرية، ولا يجب أن يستقر لهم حال حتى تشرق الأرض بنور ربها، وحتى يدخل الناس في دين الله أفواجًا!
إن ذلك كله لن يكون إلا من خلال إعداد "رواحل" في ثبات الجبال ورسوخها، رواحل يعيدون للإسلام مجده الذي بلغ عنان السماء وهيبته التي ارتعدت لها فرائص كسرى وقيصر، ويعيدون له سُمُوه الذي شهد له العدو قبل الصديق.
الراحلة هو همزة الوصل بين الفئة التي ينتمي إليها وبين المجتمع بمختلف نخبه وطبقاته؛ يتحدث بلسان حالهم ويُبرز احتياجاتهم
أولًا/ أزمة أمتنا هي أزمة رواحل
إن الرواحل بالنسبة لأي مجتمع ولأية دولة أو أمة ثروة لا يُستهان بها، لذا تجب رعايتهم رعاية بالغة حسب طبيعة المرحلة وحسب متطلبات الفئة التي يمثلونها، ولا يجب التفريط فيهم ولا إهمالهم ولا التقصير في حق واحد منهم بأي حال من الأحوال!
إن الشخص الراحلة هو همزة الوصل بين الفئة التي ينتمي إليها وبين المجتمع بمختلف نخبه وطبقاته؛ فهو يتحدث بلسان حالهم ويُبرز احتياجاتهم لتلبيتها ويُصدِّر ما يواجههم من مشكلات لحلها.
إن كل الشواهد على مر التاريخ أثبتت القاعدة التالية: "امتلك ما شئت من عدة وعتاد، فلن يُجدي ذلك كله نفعًا إلا بوجود رواحل تعرف الغاية، وترصد الواقع، وتضبط البوصلة، وتوجِّه الشراع، وتحسن استغلال الفرص والطاقات والإمكانات، وتعرف كيف تذلل الصعوبات والمعوقات والتهديدات فتقدم الإسلام للبشرية على حقيقته وغايته التي نزل بهما من السماء"
وإن شئت فاسأل التاريخ يخبرك عن غزوة مؤتة التي تمكَّن فيها 3 آلاف مجاهد مسلم من تأديب جيش قوامه 200 ألف من جحافل الروم وقبائل الغساسنة المتحالفة مع الروم، وما كان يتم ذلك إلا لوجود رواحل تدرك الغاية وتقدر المسؤولية ولا تخشى في الله لومة لائم.
إن كل الشواهد تثبت أيضًا حقيقة: "ضع ما شئت من مناهج التعليم ووسائل التربية؛ فلن تجدي ولن تؤتي ثمارها إلا من خلال رواحل يضربون من أنفسهم القدوة والمثل"
وإن شئت فاسأل جامعات أوربا التي امتلكت من المناهج أفضلها ومن وسائل التربية أحدثها وبالرغم من كل ذلك لا ترى إلا التفسخ الاجتماعي، والتشتت الذهني، والأمراض النفسية، والجرائم الأخلاقية ولا تستطيع أن تصف المجتمع الغربي إلا بما وصفه الله تعالى حين قال سبحانه:
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14]
وهنا ينطبق على المجتمع الغربي قول الشاعر الجاهلي "طَرَفَة بن العَبد":
كالعيس في البيداء يقتلها الظما :: والماء فوق ظهورها محمول
الأزمة الحقيقية ليست إلا أزمة ضمائر حية وقلوب نقية وأنفس تواقة وهذا هو ما تشهده العين ويُقره الواقع إحقاقًا للحق من دون مبالغة ولا تحيز ولا إجحاف
وكل الشواهد تثبت: "أنشئ ما شئت من فرق عمل ولجان وسخِّر لها ما شئت من إمكانات وارصد لها ما شئت من ميزانيات، فلن تنجز مشروعًا ناجحًا إذا حُرمت الرجل الصادق ذي الهمة العالية الذي يتجرد لغايته النبيلة وهدفه السامي فتجده يفجِّر طاقات من معه تفجيرًا ويرتقي بهم مرتقى تشرئب له الأعناق وتحدِّق به الأبصار وتصغي له الأسماع وتهفو إليه الأفئدة وتُبذل في سبيله المُهج"
وإن شئت فاسأل الواقع عن أعمال كثيرة قام عليها مفسدون فلم يزيدوا الواقع إلا فسادًا، وصدق فيهم قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]
إن الأمة تحتاج الآن إلى أولئك الذين احترفوا إتقان الأعمال وأدمنوا إحسانها؛ فالإسلام الذي أمرنا بالإحسان عند إقامة الحدود وعند ذبح الذبائح لا يقبل منا عشوائية وتخبطًا في الفرائض والأولويات، وإن كل ما سبق يشير إلى أن الأزمة الحقيقية ليست إلا أزمة ضمائر حية وقلوب نقية وأنفس تواقة وهذا هو ما تشهده العين ويُقره الواقع إحقاقًا للحق من دون مبالغة ولا تحيز ولا إجحاف.
فقه الواقع وواجب الوقت يُحتمان علينا أن ننظر لمعنى كلمة "الرواحل" نظرة أعمق وأشمل وأدق
ثانيًا/ تعريف الرواحل
رَوَاحِلُ: جمع راحِلة، والراحلة هي المركب من الإبل ذكرًا أو أنثى، رَحَلَ البعيرَ أي عَلاه وركبه.
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي ﷺ قال: "إنَّما النَّاسُ كالإِبِلِ المِائَةِ، لا تَكادُ تَجِدُ فيها راحِلَةً" [صحيح البخاري]، قال القرطبي: "الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد الذي يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم ويكشف كربهم عزيز الوجود كالراحلة في الإبل الكثيرة"، وقال ابن بطال: "معنى الحديث أن الناس كثير وَالْمَرْضِيّ منهم قليل"، وقال الخطابي: "المعنى: أن أكثر الناس أهل نقص، وأما أهل الفضل فعددهم قليل جدًا؛ فهم بمنزلة الراحلة في الإبل الحمولة"، ومن شرح النووي على مسلم: "وقال الأزهري: الراحلة عند العرب الجمل النجيب والناقة النجيبة"، وفيه أيضًا: "المرضيّ الأحوال من الناس، الكامل الأوصاف، الحسن المنظر، القوي على الأحمال والأسفار"
وتحدث الدكتور/ محمد أمين المصري عن الرواحل في كتابه الذي بعنوان "المسؤولية"، فقال: "ذلك النشط الحي القوي الذي يأخذ على عاتقه المسؤولية ويعمل وفق طاقاته وإمكاناته في سبيل إحياء الأمة، ذلك الفرد الذي تصبح الفكرة همّه، تُقيمه وتُقعده ويحلم بها في منامه وينطلق في سبيلها في يقظته"
وفي معنى الراحلة بمفهومها الشامل أقول: "إن فقه الواقع وواجب الوقت يُحتمان علينا أن ننظر لمعنى كلمة "الرواحل" نظرة أعمق وأشمل وأدق وألا نجعل معنى الكلمة قاصرًا على الإبل وعلى الناس فحسب بل نفكر كذلك في رواحل الأماكن أيضًا، فرُبَّ مكان لو نهض لنهضت بنهوضه عواصم ودول، ولفُتِحَت بلدان وأمصار.
ويمكننا - والحال كذلك - أن نقول بأنَّ هُدْهُدْ سُليمان كان راحلة بين غيره من الهداهد، والنملة التي حذَّرت قومها من سليمان وجنوده كانت راحلة بين غيرها من النمل، والغراب الذي علَّم قابيل كيف يُواري سوأة أخيه كان راحلة بين الغربان، وكلب أصحاب الكهف كان راحلة بين غيره من الكلاب... إلخ.
إن الواقع يخبر بأن الحاجة إلى الرواحل تزداد كلما تشتت الجهود، وتفرقت الأهواء، وكثر الخصوم، وتكالب الأعداء، وزاد الهِياط والمِياط والزياط!
الرجولة هي اتّصاف المرء بالإيمان والقوة والشدة والسعي والجلادة ومكارم الأخلاق والنجدة والشهامة وغيرها من الصفات المشابهة
ثالثًا/ الرجولة مطلب أساسي لإعداد الراحلة
وردت لفظة (رجل) في القرآن الكريم (٥٥) مرة، والرجولة - كما ورد في معجم المعاني الجامع - (بتصرف)، هي: "كمال الصِّفات المميِّزة للذَّكر البالغ من بني آدم، أظْهرَ رُجُولَةً: قُوَّةً، شَجَاعَةً، حِنْكَةً، ونُعَرَة الرُّجولة: شعور مبالغ فيه بالصّفات الرجوليّة"، وفي موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم (بتصرف): "الرجولة اسم مأخوذ من الرّجل، وهو لغة: الذّكر من نوع الإنسان، وتصغيره رجيل، ورويجل، والجمع رجال، وقد تكون الرجولة صفةً بمعنى الشدة والقوة، والكرم، ومكارم الأخلاق، والرجولية: كمال الرجل، يقال: أرجل الرجلين: أقواهما، فأصل كلمة الرجل مأخوذة من الرجولية بمعنى القوة"
وفي موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم أن المعنى الاصطلاحي للرجولة هو: "اتّصاف المرء بما يتّصف به الرّجل عادة من الإيمان والقوة والشدة والسعي والجلادة ومكارم الأخلاق والنجدة والشهامة وغيرها من الصفات المشابهة"
وفي موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم أن الفرق بين الرجولة والذكورة أن الذكورة تأتي للجنس غالبًا وللوصف على قلة، بينما الرجولة تأتي للجنس، وتأتي للصفة على حد سواء.
ميزان الرجولة في الإسلام ليس المال، وليس المنصب والجاه، وليس الحسب والنَّسب، وليس قوة البنيان، إنما الأعمال الصالحة، والخلُق الحسَن، والإيمان القوي، والعزم الفتي
من هذه التعريفات نفهم أن:
• الرجولة نعمة من نعم الله تعالى، ويدل على ذلك ما ورد في سورة الكهف في قوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف: 37]
• الرجولة لا تتقزم إذا وُجدت المُغريات، ولا تتوارى إذا حدثت المَلمَّات
• الرجولة اختيار وليست إجبارًا، فمن سار في دروبها وعلِم شِعابها وخصالها قدَّم الرقاب دونها
• الرجولة تضحية وعطاء دون منِّ ولا أذى، ودون انتظار لمغنم ولا ثناء
• الرجولة ليست أن تنتقم من مخالفك ولا أن تصادر رأيه، بل أن تقنعه بصحة مبدئك، وصدق غايتك، وصفاء نِيِّتك، ونُبْل مَقصدك، قبل أن تكوِّن فيه رأيًا أو تصدر ضده حُكمًا
• الرجولة قوة تحمل صاحبها على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه، كما تجعله يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته، ونحو إخوانه، ودينه، وأمته
مما سبق نفهم أن ميزان الرجولة في الإسلام ليس المال، وليس المنصب والجاه، وليس الحسب والنَّسب، وليس قوة البنيان، إنما الأعمال الصالحة، والخلُق الحسَن، والإيمان القوي، والعزم الفتي، ويا حبذا لو توفرت كل هذه الأمور لتعضد بعضها بعضًا.
كما نفهم أن الرجولة ليست بالسن المتقدمة؛ فكم من شيخ طاعن في السن وسلوكُه وتصرفاته مثل سلوك وتصرفات الأطفال، يفرح بالتافه، ويبكي على الحقير، ويتطلع إلى ما ليس له، ويقبض على ما في يده قبض الشحيح لكي لا يشاركه غيره؛ فهو طفل صغير، ولكنه ذو بنيان ولحية وشارب.
جاء في كتاب "فضائل الصحابة" للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "عن عمر بن الخطاب أنه قال يومًا لمن حوله: تمنوا، فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا فأنفقه في سبيل الله ثم قال: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا أو زبرجدًا أو جوهرًا، فأنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قال عمر: تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، قال عمر: "أتمنى لو أنها مملوءة رجالًا مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان"
خير ما تقدمه دولة لشعبها، وأعظم ما يقوم عليه منهج تعليمي، هو صناعة هذه الرجولة وتوفير أسبابها، وتربية هذا الطراز من الرجال على مائدة القرآن وهدي الحبيب المصطفى ﷺ
بعد هذا السرد اليسير أقول:
إننا لا نحتاج إلى أعداد مُكررة من الرجال، ولكن:
• نحتاج إلى أعداد متنوعة من الرجال يكون منهم الرجل بأمَّة
• ونحتاج إلى الرجال الذين يثبتون وسط الأزمات والفتن التي تجعل الحليم حيرانًا
• ونحتاج إلى رجال يبصِّرون الناس بالدين ويكونون لهم قدوة
• ونحتاج إلى رجال شامخين شموخ الجبال، لهم نفس أبيَّة تواقة لا تقبل الذل إلا بين يدي الله، ولا تركع إلا في الصلاة
وأقول:
إن خير ما تقدمه دولة لشعبها، وأعظم ما يقوم عليه منهج تعليمي، هو صناعة هذه الرجولة وتوفير أسبابها، وتربية هذا الطراز من الرجال على مائدة القرآن وهدي الحبيب المصطفى ﷺ، ثم تلقي بهم في ميادين الوغى ليوثًا تزأر فتحمي الحمى وتؤدب كل من تُسوِّلُ له نفسه أن يقترب من حماها وحياضها أو أن يعبث بثوابتها ومستقبل أبنائها.
وقبل أن ننتهي من هذه النقطة يجب علينا أن ننوه ونقول بأن التاريخ قديمًا وحديثًا قد سطر نماذج نسائية ضربن أمثلة من الشجاعة والجرأة والإقدام يعجز عنها من يدَّعون الرجولة وكذلك نماذج من الأطفال، ولن أكون مبالغًا إن قلت وكذلك نماذج من المشركين!
وللحديث بقية في الجزء_الثاني من نفس الموضوع إن شاء الله تعالى