أن ينادي الإسلاميون بالمثالية، ثم لمّا يؤول الأمر إليهم، نراهم يعيشون الواقعية بكل ما فيها من تنازلات وتأجيلات ومواءمات، فهذا ما يتحدث عنه الكثيرون، ويتهمون الإسلاميين به.
غير أننا هنا نريد أن نؤكد على أنه شيء طبيعي جدًا، ولا إشكال ولا ريب فيه؛ فالطبيعي أن يكون الواقع العملي أقل من التأطير النظري، وذلك في كل الأفكار والفلسفات والنظريات الاجتماعية والسياسية.
وموضع النظر هنا، ليس مجرد الاختلاف بين الأفكار وتطبيقاتها، ولكن موضع النظر هو حجم هذا الاختلاف، وحال الإسلاميين لردم هذه الهوة يومًا بعد يوم.
والاختلاف عند الإسلاميين بين تنظيرهم وبين واقعهم المُمارس، مرده إلى أكثر من سبب: فمن ناحية - كما أسلفنا سابقًا - نجد أن ذلك هو الطبيعي، في كل الأفكار والفلسفات والنظريات الاجتماعية والسياسية.
المرحلية في التطبيق عند الإسلاميين حتمية لا مناص منها، فلا يتخيل عاقل الانتقال من واقع لواقع مغايرٍ بائنٍ في المغايرة بين عشية وضحاها
ولننظر مثلًا للديمقراطية، وما ينادي به أربابها فيها من قمة الحرية وقمة الشفافية، ثم لننظر تطبيقاتها على الأرض، لتصدمنا حريتها المنقوصة بالوصاية من بعض أربابها، والتي تجعلهم يُقْصَوْن ويستبعدون تحت ادّعاء الحماية لها والمحافظة عليها، ولتصدمنا شفافيتها المنقوصة، بالتأثير المباشر وغير المباشر في اختيارات الناس، بأحط الوسائل وأسفهها، وبالتوجيه فيها بكل الإغراءات المادية والحيوانية.
ثم لننظر إلى الاشتراكية، التي ينادي أربابها - بدورهم - بمنتهى العدالة ومنتهى المساواة فيها، ثم لننظر إلى تطبيقاتها على الأرض، لتصدمنا عدالتها المعدومة التي جعلت أرض الاشتراكية أرض الظلم والظلمات، ومساواتها المزيفة التي جعلت الطغمة الحاكمة فيها أسيادًا والشعوب قطعانًا من العبيد.
لكننا نريد أن نؤكد على أن الاختلاف هنا غير الاختلاف هناك، فالاختلاف عند الإسلاميين بين أفكارهم وممارساتهم هو عند المخلصين العقلاء منهم في أضيق حدوده، أما أرباب الفلسفات الوضعية فقد رأينا البون شاسعًا، إلى حد يجعلنا نجزم بأنهم كانوا حين مناداتهم بالأفكار مدّعين كاذبين، أو أنهم كانوا مخلصين ثم تغيرت نفوسهم ومقاصدهم لما آلت السلطة إليهم، أو أنهم كانوا أغبياء جهلاء، لا يعرفون ما يَصلُح من الأفكار للتطبيق وما يستحيل، وما يَصلُح للناس وما يَصلُح الناس له.
والاختلاف عند الإسلاميين بين تأطيرهم النظري وبين واقعهم الممارس مرده كذلك لمعاكسة الواقع، ومدافعة أعداء الفكرة، ومدافعة عموم الناس الذين عاشوا دهورًا في واقع مختلف.
أنصار الإسلاميين الذين يدافعون عنهم في كل صغيرة وكبيرة، هم جاهلون مخدوعون، وليس شيءٌ أكثر فتنة لأحد من أن تسير وراءه الجموع سير العميان، تُسلمه قيادها، وتسير وراءه بلا نظر وبلا تفكير
فالإسلاميون بأفكارهم التي يريدون تطبيقها في واقع الناس يريدون بغير مبالغة الانتقال بالناس من دنيا الحيوانية التي يعيشونها إلى مثالية وملائكية لم يعهدوها ولم يألفوها، بل ولا يتخيلون أن تكون في حياتهم وواقعهم.
ولذلك فإن المرحلية في التطبيق عند الإسلاميين حتمية لا مناص منها، فلا يتخيل عاقل الانتقال من واقع لواقع مغايرٍ بائنٍ في المغايرة بين عشية وضحاها.
وهنا، وفي هذه النقطة، نتذكر الموقف التاريخي لخامس الخلفاء الراشدين، الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي لما تولى الخلافة، جاءه ابنه، وكان شابًا متدينًا حريصًا على تغيير واقع الناس للأفضل والأكمل، ودخل على أبيه، واستنكر عليه جلوسه وعدم الجد والجهد في التغيير، وقال لأبيه مستنهضًا له: فلا أبالي أن تغلي بي وبك القدور في سبيل الله.
فقال له الأب الحكيم العاقل، الذي لا يقل حرصه على التغيير عن ابنه المخلص المتعجل: "يا بني، هذا أمر شاب عليه الصغير وفنى عليه الكبير، ولله عليّ أن لا يمر يوم إلا وأنا أحيي سنة وأميت بدعة"
وهنا نصل لمربط الفرس، أي إلى الخلاصة فيه، وهو سؤالنا: إذا لم تكن هناك إشكالية في الاختلاف بين الأفكار والواقع الممارس عند الإسلاميين، فأين تكمن الإشكالية؟
على كل إسلامي ومصلح، أن لا يمر يوم - إن مكنه الله - إلا وهو يحيي سنة ويميت بدعة، أما ألا نرى له أي تأثير في الواقع الذي امتلك زمامه، فهو يؤشر إما عن كذبه ونفاقه، أو حيده وزيغه، أو جهله وعجزه
الإشكالية - كما ذكرنا - تكمن في حجم هذا الاختلاف، ثم تكمن في حال الإسلاميين وطريقة تعاملهم مع هذا الاختلاف يومًا بعد يوم.
فأولًا/ إذا رأينا مسافة شاسعة بين الأفكار والممارسات عند بعض الإسلاميين، فهي إشارة حينها إلى أنهم كانوا كاذبين مخادعين، أو أنهم فتنتهم السلطة وأطاشت عقولهم وقلوبهم، أو أنهم صُدموا بواقع راسخ عجزوا عن التأثير فيه.
وليس شيءٌ مستحيلًا؛ فمن الممكن أن يكون بعض الإسلاميين كاذبين مخادعين، ولا تمثل الفكرة الإسلامية لهم إلا مطيّة ليصلوا بها للحكم، وقد علموا أن فطرة الناس وعاطفتهم تتوق - برغم واقعهم المغاير - إلى الإسلام فكرة وشريعة وحضارة.
وكذلك ليس شيءٌ مستحيلًا؛ فمن الممكن أن يصل بعض الإسلاميين المخلصين للحكم، ثم ينقلبوا وتغريهم الكراسي والمكاسب الدنيوية!
ليس شيءٌ مستحيلًا، والفتنة لا تؤمن على حيّ، وأنصار الإسلاميين الذين يدافعون عنهم في كل صغيرة وكبيرة، ويرفضون رميهم بأي تقصير أو زيغ مهما كان منهم، هم جاهلون مخدوعون، وهم بذلك يدفعون الإسلاميين دفعًا للتقصير والزيغ، وليس شيءٌ أكثر فتنة لأحد من أن تسير وراءه الجموع سير العميان، تُسلمه قيادها، وتسير وراءه بلا نظر وبلا تفكير.
نحن نحتاج إلى عاطفة حيّة دافعة نحو تحقيق الغايات وتطبيق الأفكار، بعقل وروية وحكمة، بدون هرولة مدمرة أو تباطؤ مميت
ثم بعد الوقوف مع حجم الاختلاف، حين التمكين، نأتي لحال الإسلاميين إزاءه يومًا بعد يوم، وهو ما يعطي الإشارة الثانية والأهم؛ فالذي قاله عمر بن عبد العزيز لابنه، والذي ذكرناه آنفًا، هو القاعدة الأصولية التي يُبنى عليها ويُقيّم بها؛ فعلى كل إسلامي ومصلح، أن لا يمر يوم - إن مكنه الله - إلا وهو يحيي سنة ويميت بدعة، أما أن تمر الأيام، ثم الشهور، ثم السنون، ولا نرى له أي تأثير في الواقع الذي امتلك زمامه، فهو ما يؤشر لنا: إما عن كذبه ونفاقه، أو حيده وزيغه، أو جهله وعجزه.
كتبنا قبل ذلك، وذكرنا أن الإسلاميين المخلصين في عمومهم ينقسمون لقسمين، إما أن يكونوا عاطفيين مهرولين للإصلاح والتغيير بدون تعقل أو روية، وهو ما يكون له أبلغ الأثر في التدمير والتفجير للتجربة برمتها، وإما أن يكونوا عقلانيين مبالغين في عقلانيتهم، إلى حد الإبطاء والتسويف والتفويت.
والوسطية هي الخير في كل شيء؛ فنحن نحتاج إلى عاطفة حيّة دافعة نحو تحقيق الغايات وتطبيق الأفكار، بعقل وروية وحكمة، بدون هرولة مدمرة أو تباطؤ مميت.
الإسلاميون هم فصيل من الناس، لا هم ملائكة ولا أنبياء، يعتريهم الجهل والغباء أحيانًا، وتعتريهم الشهوات والنزوات أحيانًا.
فمن كان فيهم مخلصًا لفكرته، عالمًا بها وبأبعادها، خبيرًا بواقع الناس وحالهم، ثم يؤول الأمر إليه، ويسير في حركة التغيير والتمكين سير العالم العاقل، ذي القلب المخلص النابض الدافع، دون حيد أو زيغ، حاسبًا حساباته للمراحل والعقبات، فلا يمر يوم من أيام سلطته، إلا وهو يحيي سنة ويميت بدعة، فهو الرجل الذي يحتاجه واقع الأمة، ويحتاجه تاريخها الذي يكتب اليوم، وهو المجدد الذي من الممكن أن نكون نحن بانتظاره، أو نكون بزمنه ووقته.