الإمام النووي.. لا ينكر فضله ذو علم وإنصاف

الرئيسية » حصاد الفكر » الإمام النووي.. لا ينكر فضله ذو علم وإنصاف
2-1691494742

قال تعالى: ﴿والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم﴾ [الحشر: 10].

بهذه الآية القرآنية التي تتجلى فيها معاني وقيم الإنصاف والعدل والمحبة الأخوية والإيمانية، والفطرة السليمة، ونقاء القلب بين عباد الله المؤمنين، أردت أن أفتتح مقالتي، على بركة الله، وأنا في لهفة ورغبة في البحث والقراءة والكتابة عن سيرة أحد شيوخ الإسلام في زمانه، وقامة علمية شامخة من قامات علماء أهل السنة والجماعة في الفقه والحديث واللغة والزهد وفضائل ومعارف كثيرة؛ إنه الإمام محيي الدين أبو زكريا النووي (رحمه الله تعالى).

وإن ما شد انتباهي خلال متابعة الردود على الجدل الحاصل، والتشويه لسيرة الإمام النووي (رحمه الله) كلام قرأته للشاب الجزائري المجتهد الحاذق، وطالب العلم الغيور عبد الرحمن قارف -جزاه الله خيرا- في إنصاف الإمام النووي (رحمه الله)، وقبل التبحر في تفاصيل سيرته الطيبة العطرة، أردت الاستشهاد بكلام عبد الرحمن عن الإمام النووي في رده على بعض المهاجمين له بقوله:

"ما دمت تسأل هذا السؤال فلا أظنك من حذاق الطلبة والباحثين المتخصصين، ولذلك أنا لي ولك ناصح باجتناب المسألة في هذا الشأن قدر المستطاع، فإن هذا تعمق في غير طائل، لم يكلفنه ديننا ولا حثنا عليه نبينا، وليس البحث فيه إلا ضرب من ضروب الجدل المفضي إلى التنازع بين الإخوان إن لم تكن سلطة الأخلاق منهم فيه قائمة. وأما المناظرة فقد قتلت انتقادا، ولم ترجع على الناس بخير كثير على ما يظهر، ومشاهدتها من قبل غير المتخصصين محض تضييع للوقت".
ويضيف عبد الرحمن: "الإمام النووي رجل عظيم، وقامة علمية شامخة، ونابغة من نوابغ الإسلام، وليس له منا إلا الترحم والاستغفار له، وكل من أثار حوله ما أثير سيحاسب.. وأقول لك -ونحن أبناء القرن الواحد والعشرين الطافح بالفتن- كما قال الإمام الحافظ الذهبي رحمة الله عليه:

ينبغي للمسلم أن يستعيذ من الفتن، ولا يشغب بذكر غريب المذاهب لا في الأصول ولا في الفروع، فما رأيت الحركة في ذلك تحصل خيرا، بل تثير شرا وعداوة ومقتا للصلحاء والعباد من الفريقين، فتمسك بالسنة، والزم الصمت، ولا تخض فيما لا يعنيك، وما أشكل عليك فرده إلى الله ورسوله، وقف وقل: الله ورسوله أعلم" (الذهبي، سير أعلام النبلاء، ط1، 1983م، 20/142).
ومن يلحظ هذا الدفاع والغيرة على الإمام النووي (رحمه الله)، يتوسم في فكر هذا الشاب النباهة والنبوغ والتفقه في الدين، وأسأل الله تعالى، إن مد في عمره، أن يكون له شأن في نشر العلم النافع، والدفاع عن تاريخ الإسلام، وخدمة المسلمين (إن شاء الله).

والآن السؤال الذي يطرح نفسه: من هو الإمام النووي؟ وما قصته؟ وأين تجلى أثره الكبير في الانتصار لدين الإسلام؟

كان الإمام النووي مهيبا، وقليل الضحك، وعديم اللعب، وكان يقول الحق وإن كان مرا، وهو لا يخاف في الله لومة لائم

الإمام النووي.. أصله ونشأته

الحافظ الفقيه واللغوي وعالم الحديث، وهو أحد أكبر شيوخ أهل السنة والجماعة في زمانه، وأبرز شيوخ الفقه الشافعي؛ العلامة الإمام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام، النووي، نسبة إلى نوى، وهي قرية من قرى حوران (في محافظة درعا حاليا) في سوريا، وقد ولد الإمام النووي في شهر محرم سنة إحدى وثلاثين وستمئة.

ذكر ابن داود العطار عن ياسين بن يوسف المراكشي قوله: "رأيت الشيخ محيي الدين؛ وهو ابن عشر سنين بنوى، والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في هذه الحالة، فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن، فوصيته به، وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده، فحرص عليه، إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام" (طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين السبكي، 8/396).

أخلاق الإمام النووي وصفاته

كان الإمام النووي مهيبا، وقليل الضحك، وعديم اللعب، وكان يقول الحق وإن كان مرا، وهو لا يخاف في الله لومة لائم، وكان الزهد والورع والتقى أهم ملامح شخصيته؛ حيث أجمع أصحاب كتب التراجم على أنه كان شيخا في الزهد، وقدوة في الورع، عديم النظير في مناصحة الحكام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وكان رحمه الله لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد العشاء الآخرة، وكان لا يأخذ من أحد شيئا، وكان كثيرا ما يكاتب الأمراء والوزراء، وينصحهم لما فيه خير البلاد والعباد.

شيوخ الإمام النووي وحياته العلمية

لما قدم الإمام النووي (رحمه الله) إلى دمشق توجّه إلى حلقة مفتي الشام تاج الدين الفزاري المعرف بالفركاح، فلازمه يقرأ عليه مدة، وهذا أول شيخ للنووي (الدقر، 1994، ص: 37-38).

تتلمذ الإمام النووي على يد كثير من المشايخ والعلماء، ومنهم: محمد بن أحمد المقدسي، وسمع من إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر، وأحمد بن عبد الدائم، وخالد النابلسي، وعبد العزيز الحموي الأنصاري، والحسن بن محمد البكري، وعبد الكريم بن عبد الصمد، وعبد الرحمان الأنباري وغيرهم (آل جبعان، 2007، ص 8).

وكان النووي لا يضيع وقتا في ليل أو نهار إلا في الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه كان يشتغل في تكرار أو مطالعة، وبقي على التحصيل على هذا الوجه نحو ست سنين؛ ثم اشتغل بالتصنيف والمناصحة للمسلمين وولاتهم، مع ما هو عليه من المجاهدة لنفسه، والعمل بدقائق الفقه والاجتهاد على الخروج من خلاف العلماء، وكان بعيد المراقبة لأعمال القلوب وتصفيتها من السوء، يحاسب نفسه على الخطرة بعد الخطرة، وكان محققا في علمه وفنونه (الذهبي، سير أعلام النبلاء، ط1، 1983م، ص 249).

كان الإمام النووي يتحلى بالزهد والورع والتواضع، ويعرض عن جميع المتع والشهوات، ويبالغ في التقشف وشظف العيش.

الإمام النووي الفقيه

أخذ الإمام النووي (رحمه الله) الفقه الشافعي من كباء علماء عصره، وخلال فترة وجيزة حفظ الفقه وأتقنه، وعرف قواعده وأصوله، وفهم مخبآته وألغازه وبرع في معرفة أدلته، حيث عرف بذلك بين العامة والخاصة، ولم يمض وقت كبير حتى فاق علماء عصره في حفظه للمذهب، وإتقانه لأقوال علمائه، فكان أعرفهم بعلم الخلاف، وأحقهم بأن يكون: محرر المذهب، فانتشر في الآفاق ذكره، وتعلق الطلبة والعلماء بتآليفه فانتفعوا بها، وما زال الناس ينتفعون بكتبه ويؤثرونها (الدقر، 1994، ص 50).

الإمام النووي المحدث

يقول الذهبي: "كان الإمام النووي محققا في علمه وفنونه، مدققا في علمه وشؤونه، حافظا لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، عارفا بأنواعه من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظ واستنباط فقهه، حافظا للمذهب وقواعده وأصوله، وأقوال الصحابة والتابعين، واختلاف العلماء ووفاقهم، سالكا في ذلك طريقة السلف، قد صرف أوقاته كلها في أنواع العلم والعمل بالعلم" (الذهبي، سير أعلام النبلاء، ط1، 1983م، ص 251).

الإمام النووي وعلم اللغة

كتابا النووي "تحرير التنبيه" و"تهذيب الأسماء واللغات" يدلان على تمكن الإمام بعلم اللغة تمكنا قل نظيره في نظرائه في عصره.

زهد الإمام النووي وورعه

كان الإمام النووي يتحلى بالزهد والورع والتواضع، ويعرض عن جميع المتع والشهوات، ويبالغ في التقشف وشظف العيش. قال الإمام ابن كثير: "الشيخ الإمام -أي الإمام النووي- العلامة الحافظ، الفقيه النبيل، محرر المذهب ومذهبه، وضابطه ومرتبه، أحد العباد والعلماء الزهاد، كان على جانب كبير من العلم والعمل والزهد والتقشف، والاقتصاد في العيش والصبر على خشونته، والتورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه ولا قبله بدهر طويل" (السخاوي، 2005، ص 43).

لما بلغ نعي الإمام النووي إلى دمشق ارتجت هي وما حولها بالبكاء، وتأسف عليه المسلمون أسفا شديدا، وتوجه قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ وجماعة من أصحابه إلى نوى للصلاة عليه في قبره رحمه الله رحمة واسعة

تصانيف الإمام النووي ومؤلفاته

عاش الإمام النووي (رحمه الله) ستا وأربعين سنة، ويقول الذهبي: "وقد نفع الله تعالى الأمة بتصانيفه، وانتشرت في الأقطار، وجلبت إلى الأمصار" (الذهبي، 1999، ج 50، ص 253). وصنف الإمام النووي كتبا في الحديث والفقه أبرزها:

  • المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج.
  • روضة الطالبين وعمدة المفتين (في الفقه)، وهو من الكتب الكبيرة المعتمدة في الفقه الشافعي.
  • منهاج الطالبين وعمدة المفتين (في الفقه).
  • رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين (في الحديث).
  • الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار.
  • التبيان في آداب حملة القرآن.
  • الفتاوى أو المسائل المنثورة.

وغيرها العشرات من الكتب (موقع طريق الإسلام، 7/6/2014).

وفاة الإمام النووي

توفي الإمام يحيى بن شرف النووي (رحمه الله) بنوى في الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمئة من الهجرة النبوية الشريفة، وله من العمر خمس وأربعون سنة فقط، ولما بلغ نعيه إلى دمشق ارتجت هي وما حولها بالبكاء، وتأسف عليه المسلمون أسفا شديدا، وتوجه قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ وجماعة من أصحابه إلى نوى للصلاة عليه في قبره رحمه الله رحمة واسعة (إسلام ويب، 7/4/2013).

قال ابن كثير في البداية والنهاية: الشيخ الإمام العالم العلامة، شيخ المذهب وكبير الفقهاء في زمانه، ومن حاز قصبة السبق دون أقرانه.

ماذا قيل في الإمام النووي؟

  • قال الإمام الذهبي (رحمه الله): "الشيخ الإمام القدوة، الحافظ الزاهد، العابد الفقيه، المجتهد الرباني، شيخ الإسلام، حسنة الأنام".
  • ذكر السخاوي أن شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني (رحمهما الله) كان شديد الأدب مع الإمام النووي حتى سمعه مرارا يقول عنه: لا أعلم نظيره في قبول مقاله عند سائر أرباب الطوائف (المنهل العذب الروي، ص 112).
  • قال ابن كثير (رحمه الله) في البداية والنهاية: "الشيخ الإمام العالم العلامة، شيخ المذهب وكبير الفقهاء في زمانه، ومن حاز قصبة السبق دون أقرانه".
  • قال عنه الإمام جلال الدين السيوطي (رحمه الله) في كتابه طبقات الحفاظ: وكان إماما بارعا حافظا متقنا، أتقن علوما شتى وبارك الله في علمه وتصانيفه لحسن قصده، وكان شديد الورع والزهد، أمّارا بالمعروف ناهيا عن المنكر، تهابه الملوك، تاركا لجميع ملاذ الدنيا ولم يتزوج، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية بعد أبي شامة (رحمهما الله)، فلم يتناول منها درهما. (طبقات الحفاظ، السيوطي، رقم الحديث 1128، ص 513).

وهناك أقوال لبعض المعاصرين عن الإمام النووي وعلمه ومؤلفاته:

  • قال عنه الشيخ ابن عثيمين (رحمه الله): "النووي رجل ناصح، وله قدم صدق بالإسلام، ويدل على ذلك قبول مؤلفاته حتى إنك لا تجد مسجدا من مساجد المسلمين إلا تجد فيه كتابه رياض الصالحين".
  • من الأقوال في الإمام النووي، نشرة الدكتور والأديب السوري أنس الدغيم حول سيرته، وقوله: "النووي (رحمه الله) من جبال الأمة ورجال المهمة وحملة الرسالة وشواهق العلم وأهل الحق.. وهو فوق وقاحة المشككين".
  • ذكر الشيخ حسن الحسيني في هذا المقام قائلا: "الإمام النووي (رحمه الله) لديه نفرة من علم الكلام، وموقفه الشخصي موقف رافض للبدع، وهو شيخ جليل، وحافظ محدث، وصاحب أخلاق، وعلم نافع".

وأخيرا، أوجه رسالتي لمن يشكك ويشوّه سير الصحابة الكرام، والتابعين ذوي السبق والإحسان، ومن يسيء للعلماء والفقهاء الأجلاء بقصد أو بغير قصد، أمثال الإمام الشافعي، والغزالي، وابن تيمية، والنووي، وابن حجر، وغيرهم (رضي الله عنهم ورحمهم جميعا)، خلاصتها قوله تعالى: ﴿واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون﴾ [البقرة: 281].

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • مدونات الجزيرة
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

قراءة سياسية في عبادة الصيام

عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …