الإيمان بالله ونسبية أينشتاين

الرئيسية » بصائر الفكر » الإيمان بالله ونسبية أينشتاين
الإيمان بالله ونسبية أينشتاين - راغب طاهر

النظرية النسبية التي جاء بها أينشتاين في مطلع القرن العشرين، هي واحدة من أهم النظريات العلمية في التاريخ، أو هي الأهم على الإطلاق كما يقول الكثيرون، وأينشتاين بذلك، هو من أعظم العقول العلمية في التاريخ الإنساني، أو هو أعظمها كما يقول هؤلاء الكثيرون.

والاستدلال هنا ليس حتميًا؛ فليس لزامًا أن يكون أينشتاين هو أعظم العقول العلمية إن هو جاء بأعظم النظريات العلمية؛ لأن العلم - كما هو معلوم - تراكمي، يبني فيه اللاحق على السابق.

والذي يريد فيه أن يأتي بالجديد، لا بد أن يتعلم القديم ويهضمه؛ لكي يبني عليه، أو يزيد فيه، أو ينقده وينقضه.

وبالتالي، فإذا جاء أحد بما لم يأت به الأوائل، فإنما جاء به على ضوء ما أتى به هؤلاء الأوائل، ومزيته هنا أنه وضع اللبنة الأخيرة، في البناء الذي كان يوشك على التمام.

لا خصومة بين العلم والدين على الإطلاق، بل إن العلم الطبيعي هو أكبر داعية للإيمان؛ لأن العلم الطبيعي في حقيقته ما هو إلا وصف للكون وللعلاقات بين مكوناته، والكون وعلاقاته وضعها الخالق، فكيف تدعو معرفتنا بالكون وبقوانينه المسيرة له للكفر بخالقهما

وإذا كان قد جاء بما ينقض البناء كله، كما فعل أينشتاين في نظريته، فإن عمله أيضًا مبني على ما جاء به الأوائل، فلولا ما أتوا به في نظرياتهم، وما تعلمه أينشتاين وبحث فيه، لم يكن بمقدوره أن يعلم خطأه ويبحث في غيره.

العلم كما نقول فعل تراكمي، ولا ميزة للاحقين فيه على السابقين مهما أتوا به؛ لأنهم إن رفعوا البناء وشيدوه وجملوه وأتموه، فإنما يفعلون ذلك على القواعد والأساسات التي وضعها السابقون.

وأما عن موضوعنا المقصود فنقول: لا خصومة بين العلم والدين على الإطلاق، بل إن العلم الطبيعي هو أكبر داعية للإيمان؛ لأن العلم الطبيعي في حقيقته ما هو إلا وصف للكون وللعلاقات بين مكوناته، والكون وعلاقاته وضعها الخالق، فكيف تدعو معرفتنا بالكون وبقوانينه المسيرة له للكفر بخالقهما.

وعندما يقول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، فإنما يقصد الله بذلك - وهو أعلم به - أن زيادة معرفتنا بالكون وبقوانينه الطبيعية المسيرة له وللإنسان كذلك ستجعلنا نحن البشر نوقن بأن الله هو الحق لا محالة.

وبالمنطق نقول: كلما ازداد علم العقل البشري بالكون وبقوانينه وتشابكها وتشاكلها كلما أيقن بوجود الخالق المقنّن، ولو كانت الصدفة هي التي صنعت ذلك - حاشا وكلّا - فإن الواجب علينا أن نعبد الصدفة؛ لأنه يجب علينا أن نقر بأنها صدفة في غاية العلم والقدرة.

نعود لنسبية أينشتاين ونقول: نسبية أينشتاين تعني بأبسط شرح نسبية الزمان والمكان، أي أن الزمان ليس مطلقًا، فيكون مقدارًا ثابتًا يُقاس ويُعاش ويُلاحظ بنفس القدر من أي أحد وبأي شكل ومن أية زاوية... وكذلك هو المكان.

وقد كان العلم قبل نسبية أينشتاين يقول بالزمان المطلق، والمكان المطلق، فجاءت هذه النظرية لتؤكد أن لا شيء مطلقٌ في هذا الكون، وخصوصًا: الزمان والمكان فيه.

ومن وجهة نظري، فإن هذه النظرية من أكبر الدعاة إلى الإيمان، ومن أكبر المؤيدات لأفكاره وأصوله.

كلما ازداد علم العقل البشري بالكون وبقوانينه وتشابكها وتشاكلها كلما أيقن بوجود الخالق المقنّن، ولو كانت الصدفة هي التي صنعت ذلك - حاشا وكلّا - فإن الواجب علينا أن نعبد الصدفة؛ لأنه يجب علينا أن نقر بأنها صدفة في غاية العلم والقدرة

فإذا قلنا نحن المؤمنين للناس: إن الله هو خالق هذا الكون، وإنه خالق لا مخلوق، وإنه سبحان المبدئ الذي ليست له بداية... فقال القائلون: وكيف لا تكون له بداية، وكيف مر عليه الزمن قبل خلقه للكون.

نقول: الزمن شيء نسبي كما تقول النظرية، والزمن مرتبط بالمكان والحركة، كما قالت كذلك، وقبل خلق الله للكون لم يكن هناك زمان؛ لأنه لم يكن هناك مكان ولا حركة، بل كان الله ولم يكن شيء معه.

وإذا قلنا لهم: إن الله لا يحده الزمان ولا المكان، فقالوا: وكيف بموجود لا يحده الزمان والمكان.

لقلنا: الله واجد لا موجود، وهو خالق الزمان والمكان، والزمان والمكان نسبيان لا مطلقان، والله هو الحقيقة المطلقة في هذا الوجود، وكيف للحقيقة المطلقة أن تحدها النسبيات.

وإذا قلنا: إن الله يطّلع على الماضي والحاضر والآتي في ذات اللحظة، فما هو ماض ٍ وآتٍ بالنسبة لنا هو حاضرٌ بالنسبة إلى الله.
فقالوا: وكيف ذاك؟!

لقلنا: الزمن نسبي، وقد أكدت هذه النظرية، وغيرها، أننا نستطيع أن نرى الماضي بأعيننا الآن، وذلك إذا استطعنا أن نسير بسرعات كبيرة - فوق سرعة الضوء - لنصل إلى أماكن في الكون بعيدة عن الأرض، ثم نسلط أدواتنا للرؤية على الأرض، والتي ستعتمد حينها على أجهزة تلتقط الصورة بسرعة أكبر بكثير جدًا من سرعة الضوء أيضًا، وحين ذاك سنستطيع أن نرى الأرض في أزمانها الغابرة، ونرى أحداثها كأنها تحدث في هذه اللحظة.

وكذلك يقولون: إننا لو استطعنا أن نصل لأماكن بعيدة في الكون، يمر فيها الزمن بطيئًا، وهي موجودة كما يقولون، ثم نعود للأرض، فإننا سنجد أنفسنا في المستقبل البعيد؛ لأن الزمن سيمر على الأرض بسرعة، في حين أنه سيمر علينا هناك بطيئًا.

وبالتالي: فالحاضر والماضي والمستقبل، بنسبية الزمان، كلها أشياء واقعة في ذات اللحظة، أمام علم الله وسمعه وبصره.

وإذا قلنا: إن الله في كل مكان وزمان بسمعه وبصره، يسمع كل المخلوقات، ويراها كذلك، في كل مكان، وفي ذات اللحظة، وقالوا: يستحيل ذلك!

لقلنا لهم: نسبية الزمان والمكان أيها الناس، ونسبية الاطلاع عليهما!

حقيقة أن الله هو خالق هذا الكون، وهو إلهه المستحق للعباده، وهو ربه المنعم والمتفضل على من فيه، وأن ما جاء به هو الحق، هي الحقيقة الكبرى في هذا الوجود، وكل الحقائق الاخرى، الكلية والجزئية، العلمية وغير العلمية، تصب في صالح إثبات هذه الحقيقة الكبرى، ما دامت حقائق مقطوعا بصحتها

بعض النظريات الأخرى، التي تتابع بنية الذرة، وحركة مكوناتها، أصبحت تقطع بوجود الإلكترون في مكانين مختلفين في ذات اللحظة، وإذا كان ذلك جائزًا لمخلوق دقيق مثل الإلكترون، فكيف يستحيل على الخالق العظيم أن يكون في أكثر من مكان وزمان، بل وفي كل زمان ومكان، بسمعه وبصره ومعيته.

وإذا ذكرنا لهم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يقطع فيه بأن الأرض تُطوى بالليل، وذلك يعني أن الوقت الذي تحتاجه بالليل لقطع مسافة بين نقطتين، يقصر عن الوقت اللازم لقطع نفس المسافة بالنهار، فإذا ذكرنا لهم ذلك فأنكروه - من باب إنكار كل ما جاء به القرآن وجاءت به سنة الرسول - صرخنا في وجوههم بنسبية المكان والزمان.

وكذلك إن حدثناهم عن أن صحابيًا من الصحابة كان يقرأ القرآن كله في الليلة الواحدة، فأنكروا، حاججناهم بنسبية الزمان، الذي يمر سريعًا على أناس، بلا روية ولا بركة، ويمر على آخرين بروية وبركة، تتيح لهم أن يفعلوا فيه ما يعجز الآخرون عن الإتيان بمثله أو نصفه أو ربعه.

وإذا قلنا: إن الإنسان يُنعّم في قبره أو يعذب، وقالوا: لا نرى ذلك بأعيننا إن فتحنا المقابر ورأينا من بها!

لقلنا: المكان شيء نسبي؛ فالقبر مكان للنعيم والعذاب ولو لم نرَ ذلك، هو في حقيقته مكان للنعيم والعذاب كما أخبرنا الله تعالى، صارخ ومصطخب بمن فيه، وإن كان بالنسبة لمداركنا نحن مكان صامت، لا حركة فيه ولا كلام.

حقيقة أن الله هو خالق هذا الكون، وهو إلهه المستحق للعباده، وهو ربه المنعم والمتفضل على من فيه، وأن ما جاء به هو الحق، هي الحقيقة الكبرى في هذا الوجود، وكل الحقائق الاخرى، الكلية والجزئية، العلمية وغير العلمية، تصب في صالح إثبات هذه الحقيقة الكبرى، ما دامت حقائق مقطوعا بصحتها، ولن تتصادم حقيقة في هذا الوجود مع الحقيقة الكبرى تلك، إلا أن تكون افتراضًا غير حقيقي، أو تكون مفهومة بطريقة خاطئة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …