دخل الطفل على أمه وهو في حالة من الهلع، مخاطبًا إياها بصوت مرتفع: “ماما.. ماما لقد رأيت في المطبخ فأرًا كالفيل!”، فنهرته الأم قائلة له: “ألم أخبرك مليون مرّة ألا تبالغ؟”
يا ترى من أين تعلم هذا الصغير هذه المبالغة، ليشبّه الفأر بالفيل؟ أظن أنه تعلم هذه المبالغة من أمه التي لم تتورع أن تقول له وهي في حالة لا وعي أنها قد حذرته مليون مرة من المبالغة، وعليه ففيل الصغير جاء من مليون الأم، قبل أن يأتي من مخيلة هذا الصغير، إن المجازفة برمي الكلام بين يدي الصغار له خطورة كبيرة لا تحمد عقباها، والأصل أن نزِنَ ما نقول لنحافظ على عقلية متزنة لمن نربيهم، وإلا فلا نلوم إلا أنفسنا إذا سمعنا من المبالغات ما لا يخطر لنا على بال، فالفيل أخو المليون لمن يفهم.
كم نردد على مسمع أبنائنا عندما يتكرر منهم الخطأ أو المخالفة تلك العبارة، التي أصبحت عند البعض لازمة من اللوازم “اسمع يا بني وافهم، كلمة وعشر سواء”، وفي ظننا أننا بعد قولنا ذلك أن المشكلة قد حُلت، وأن الخطأ لن يتكرر، وقد أعذر من أنذر، ولذلك عندما يتكرر الخطأ من الطفل لا يتورع البعض عن مد اليد أو الرجل أو العصا على الطفل، وفي أحسن الأحوال قد يتلقى الطفل سيلًا من التوبيخ والشتائم القديمة والجديدة، والحجة التي يستند إليها المربي في هذه الحالة هي أنه قد حذّر وأنذر، ونبه ووجه، واللوم كل اللوم على هذا الصغير الذي لم يتعلم الدرس.
التربية تعد من الصناعات الثقيلة، وتعدّ استراتيجية مستقبلية لأي بلد يريد أن يتطلع إلى مستقبل مشرق؛ وذلك لأن نتائجها لا تظهر إلا بعد سنوات طويلة، قد تتجاوز 20 عامًا
أهمية الصبر والاستمرار في تربية الأبناء
إنّ مَن لم يتحلَّ بفضيلة الصبر وسعة الصدر فحظه من التربية الرشيدة قليل جدًا، إن لم يكن معدومًا، وكيف تكون هناك تربية لأولئك الذين تثور ثائرتهم لأتفه الأسباب، وتتعكر أمزجتهم لأقل خطأ أو تقصير، وتتغير طباعهم إلى الأسوأ عند أدنى قصور، ويمكن أن يعلنوها حربًا شعواء لا تبقي ولا تذر، ولا يدركون فداحة ما فعلوه إلا بعد أن تهدأ العاصفة، هذا إن كان هناك بقية باقية من عقل، وإلا فإن البعض يعتبر أن ما قام به بطولة يستحق عليها وسامًا من الدرجة الأولى.
التربية تعد من الصناعات الثقيلة، وتعدّ استراتيجية مستقبلية لأي بلد يريد أن يتطلع إلى مستقبل مشرق؛ وذلك لأن نتائجها لا تظهر إلا بعد سنوات طويلة، قد تتجاوز 20 عامًا، وهذه الفترة في حدّ ذاتها كفيلة بزرع اليأس في قلوب المستعجلين ومن يريدون وضع البذور في الصباح والحصول على ثمارها في المساء، أو في اليوم التالي على أبعد تقدير، أما من يدركون طبيعة التربية، فإنهم على بيّنة من أمرهم، إنهم يدركون أن طفولة الإنسان تعد أطول طفولة مقارنة مع أي كائن على هذا الكوكب، وهذا يحمِّلهم مسؤولية كبيرة تتطلب منهم الصبر والمصابرة والهدوء والانتظار مع الرعاية والتوجيه والإرشاد، إن التربية عمل على “نار هادئة” – كما يقولون – حتى تستوي شخصية هذا الصغير على سوقها، وطول الفترة من جانب آخر يعطي المربي فسحة من الوقت ليواصل بناء الشخصية على مهل، ويعيد النظر فيها مرّة بعد مرّة، فيتدارك المعوج ويشذب النافر من الأخلاق والسلوك.
المربي يصنع إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ويبني أساسات شخصية متميزة، ويرعى شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء
كيفية الصبر على الأبناء
إن المربي يصنع إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ويبني أساسات شخصية متميزة، ويرعى شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وكم ستكون فرحته، بل كم سيكون اغتباطه بالأجر الكبير من ربه عندما يرى أمامه إنسانًا صُنع على عين الله، وبناء أُقيم على منهج الله، وشجرة طيبة عملاقة تشبه في مضامينها الكلمة الطيبة، التي ارتضاها الله سبحانه وتعالى بوابة للدخول في دين الإسلام.
الحقيقة أنه لا شيء بلا مقابل؛ فالصبر ليس سهلًا لكنه في الوقت ذاته ليس مستحيلًا، والحقيقة أيضًا أننا في حاجة لتدريب أنفسنا عليه، تمامًا مثل أي أمر آخر نتدرب عليه، فالتربية نوع من الحرب الدائمة على كل أشكال الانحراف والتبلد والقصور الذاتي، كما أنها (أيّ التربية) كالحرب تحتاج إلى الرجل المكِّيث المتأني الذي يملك فضيلة الصبر على بذل الجهد المستمر، مع التطلع إلى الفرص المواتية.
لكل مرحلة عمرية درجة من النضج يصعب تجاوزها، كما أن لها مشكلات لا يمكن حلها إلا على نحو جزئي، ولذا فإن العجلة هي العدو الأول للتربية
التربية جهود مستمرة
إن لكل مرحلة عمرية درجة من النضج يصعب تجاوزها، كما أن لها مشكلات لا يمكن حلها إلا على نحو جزئي، ولذا فإن العجلة هي العدو الأول للتربية، وهناك جوانب عديدة في شخصيتنا، لا ينضجها إلا الزمن، ولأن عنصر المرونة في الإنسان ليس مكتملًا، ومن ثم فإن المربي يظل فيما يشبه حالة النزال مع من يربيه.
الفيصل في الأمر، كما يؤكد على ذلك الدكتور عبد الكريم بكار، شعور المربي أن هناك تقدمًا ما على صعيد الجانب الذي يهتم بتنميته في شخصية من يربيه، ولا بأس في أن يكون هذا التقدم بطيئًا إذا ما تبين أنه ثابت، مع أن النكوص ليس حادثًا غريبًا.
إن التربية عبارة عن جهود متتابعة لا ندري على وجه التحديد متى تثمر الثمرة المرجوة، ولا بد من الصبر، وعلى الله المثوبة والأجر.
يذكرون أن فتىً فعل جريمة منكرة، وحين أرادوا تنفيذ الحكم فيه، قال أحد الحاضرين: “عاقبوا والده الذي لم يربِّه التربية الصحيحة”، فما كان من الفتى إلا أن قال: “أبي ليس مذنبًا، فقد رباني، لكن أباه ما رباه”.
لقد أراد هذا الفتى من إجابته السابقة أن يقول لنا بأن والده بريء وأن الذنب ذنب جدّه، وبناء على ذلك فستقيّد تهمة الفشل في التربية “ضد مجهول”؛ لأن التسلسل لن ينتهي عند جدّ هذا الفتى بل سيتواصل إلى ما لا نهاية، وعندها تتفرق دماء التربية بين القبائل، ولن يكون هناك مذنب، وعليه، فسيكون الجميع ضحايا، وهذا هو ما يريد البعض أن يقولوه لك عندما تحدثهم عن المسؤولية التربوية.
الطفل قبل أن يخرج إلى الحياة، بقي في بطن أمهتسعة أشهر حتى اكتمل نضجه وخرج إلى الحياة؟ ولم نجد من يطالب بخروجه قبل هذه الفترة إلا لظروف قاهرة وخطرة على الأم
في التربية نحن نتعامل مع أكثر من مجهول أو لغز، فالصغير الذي نربيه مخطوطة فريدة تحتاج إلى فك شفرتها المعقدة ورموزها الغامضة، الصغير عالم مجهول ولغز يحتاج إلى معرفة وحل، والمستقبل الذي نريد أن نربي هذا الصغير كي يعيش فيه مجهول بالنسبة إلينا، وهكذا نحن نربي الإنسان (ذلك المجهول) للمستقبل المجهول، ولهذا علينا التريث والتأني والتمهل؛ لأن أصابعنا - كما يقال - تحت الحَجَر، وعلينا سحبها ببَصَر، وعلينا أن نقلّص سقف الافتراضات الضبابية ونبني على بعض المعطيات التي اتضحت لنا بعض معالمها بخصوص هذا الكائن اللغز (الإنسان)، وهذا الزمن الآتي (المستقبل) الذي لا ندري ما الله منشئ فيه.
هناك من المربين من يريد أن يضغط سنوات التربية لمن يربيهم في أيام أو شهور على الأكثر، ويريد أن يطبق في ذلك عمل “القدور المضغوطة”، التي تساعد على إنضاج اللحم في أقصر مدة زمنية، وهذا غير متأتٍ في التربية؛ لأن تربية القدور المضغوطة، وتربية حرق المراحل، لن تكون مجدية، ولن يقطع بها المربي أرضًا ولن يبقي بها ظهرًا، وسيرهق نفسه ويزيد من يربيه رهقًا.
ألا ترى معي - عزيزي القارئ - أن الطفل قبل أن يخرج إلى الحياة، بقي في بطن أمه تسعة أشهر حتى اكتمل نضجه وخرج إلى الحياة؟ ولم نجد من يطالب بخروجه قبل هذه الفترة إلا لظروف قاهرة وخطرة على الأم، وجميعنا يدرك أن خروج هذا الجنين قبل اكتماله قد يعني موته المحقق، ولذا علينا كما انتظرنا تسعة أشهر حتى يخرج هذا الجنين إلى الحياة سليمًا معافى، أن ننتظر بصبر عدة سنوات قد تطول لتتجاوز 20 عامًا، ونحن نصقل هذه الشخصية ونهذبها ونشذبها، في عمل متواصل غير مشروط وبدون مقابل إلا انتظار الأجر من الله سبحانه وتعالى.
مهما كان حرص المربي على إنضاج شخصية من يربيه، فلا بد من الصبر على سنن الله التي وضعها الله في الأنفس والآفاق، ومصدرُ هذا الصبر والجلد اليقينُ بأن الطريق الذي نسير عليه يؤدي إلى الهدف الذي نسعى إليه
إذا كانت الحضارة لا تزدهر في شهر، فكذلك النتائج التربوية لا تتحقق في أيام؛ لأن هناك قوانين مضبوطة تتم مع كرّ الغداة ومرّ العشي، ومهما كان حرص المربي على إنضاج شخصية من يربيه، فلا بد من الصبر على سنن الله التي وضعها الله في الأنفس والآفاق، ومصدرُ هذا الصبر والجلد اليقينُ بأن الطريق الذي نسير عليه يؤدي إلى الهدف الذي نسعى إليه.
في التربية الصبر صبران، وفق تعبير الدكتور عبد الكريم بكار: صبر سلبي وصبر إيجابي، معظم الناس يفهمون الصبر في جانبه السلبي، وهو الذي يعني انتظار الطفل حتى يكبر ويعقل ويهدأ، وهذا ليس صبرًا بل نوع من الإهمال، الصبر المطلوب الصبر الإيجابي الذي يعني تفهمنا لصعوبة ترسيخ المفاهيم والأخلاق في شخصيات الأطفال وسلوكياتهم دفعة واحدة، وأن ذلك يحتاج إلى جهد ومحاولة وإلى زمن.
إن لزوم الصبر بدون مراجعة للأخطاء قد يجعل المصابرة نوعًا من التغطية على النتائج السيئة واحتمال العناء بدون مبرر، هناك شيء اسمه الصبر الإيجابي وهو يعني تفهم الظروف الصعبة والتكيف معها مع العمل الجاد على التخلص منها.
الناس يحبون امتداح الصبر، ويدّعون أنهم يتحلون به، لكن بعضهم يخلط أحيانًا حين يعتقد أن الصبر محض الانتظار، أن تنتظر ريثما تتغير الأحوال، وأنا لا أراه كذلك (والكلام للأستاذ أسعد طه)، وإلا لادّعى المسجونون مثلًا الصبر على بليتهم إلى حين خروجهم من سجنهم، والحقيقة أنهم كانوا مجبَرين على الانتظار نتيجة الأحكام الصادرة في حقهم، والأمر يعتمد على مشاعرهم وسلوكهم وهم ينتظرون.
من أمارة صحة العقل إدراك الأمور بعواقبها، والناس يتساوون في حب ما يوافقهم ويعززهم إيجابيًا، وكراهية ما يضرهم ويعززهم سلبيًا، لكنهم يتفاوتون في الصبر على النتائج المؤجلة، وهذا هو الفرق بين العجز والكَيَس
الشكّاء المتذمر، ليس بصابر، ذلك المستاء والغاضب على الدوام ليس بصابر، الصبر يبدأ عند الرضى، يبدأ عند تقبل الواقع وتفهمه والتأقلم معه، ثم العمل على تغييره بدون كلل أو ملل، الصبر: العمل وسط ظروف صعبة وبائسة أحيانًا بنفس راضية موقنة بما هو آتٍ.
إن المستعجلين لا يصبرون على العمل للوصول إلى العواقب المؤجلة التي تحتاج إلى مدى زمني بعيد، وحب العاجلة أمر مسيطر على البشر، والصبر على النتائج البعيدة المؤجلة يحتاج إلى نوع من الوعي يختلف عن الوعي النوعي الذي لم ينتبه إليه الذين لا يراقبون الأحداث إلا قليلًا، وقد انتبه إلى هذا ابن المقفع، وجعل من أمارة صحة العقل إدراك الأمور بعواقبها، والناس يتساوون في حب ما يوافقهم ويعززهم إيجابيًا، وكراهية ما يضرهم ويعززهم سلبيًا، لكنهم يتفاوتون في الصبر على النتائج المؤجلة، وهذا هو الفرق بين العجز والكَيَس، وهذا الأمر أوضح ما يكون في التربية، لطول فترة معالجتها، وتأخر نتائجها وعواقبها.
من المهم أن ندرك أن ثمة أوضاعًا كثيرة لا نستطيع أن نفعل حيالها الآن شيئًا، لكن إذا قلنا: ماذا نستطيع أن نفعل تجاهها في سنوات قادمة؟
سوف نرى أننا نستطيع أن نفعل أشياء كثيرة جدًا، كأن الصبر استخدام للوقت في الخلاص من أوضاع لا نستطيع الآن أن ننجح في الخلاص منها.
هذه نصيحة عابرة للزمن قالها أحد الحكماء مخاطبًا ابنه الذي رأى أنه حاد عن طريق النبلاء:
أفكلما اشتهيت اشتريت؟ فمتى تتعلم الصبر!
أفكلما خلوت عصيت؟ فمتى تتعلم التقوى!
أفكلما تعبت استرحت؟ فمتى تتعلم المقاومة!
أفكلما يسر الله لك تماديت؟ فمتى تبدأ التوبة!
- د. يحيى أحمد المرهبي
أستاذ أصول التربية المساعد كلية التربية والعلوم التطبيقية والآداب – جامعة عمران، الجمهورية اليمنية
كتب ذات صلة بالموضوع
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- أكاديمية بالعقل نبدأ