طموح إنشاء مسار مهني في مجال بعينه والترقي الدائب فيه من الطموحات المشروعة بصفة عامة في إطار الضوابط الشرعية للعمل والتكسب، وهي ميزة لها منافعها لا ريب، وعلى كل ذلك تظل خَيارًا مباحًا ولقمة هنيئة لمن تيسرت له، لكنها ليست واجبًا مُلزمًا بذاتها لكل إنسان.
إدراك هذه الحقيقة البدهية يحفظ صاحبها من الشعور بالمديونية العرفية أو الشرعية للمسار المهني، وضرورة الإخلاص له والاستماتة في بنائه والترقي في سُلّمه حتى آخر رَمَق، ويفتح أمامه آفاق المرونة النفسية بين التجربة والاكتشاف، والترك والاستمرار، والرجوع في حال الحاجة للرجوع بنفسيّة مغايرة، بدون الشعور بهول كل خطوة كأنها ذنب حقيقي، أو الشعور بعدم قيمة ما فات وهَدَدُ ما هو آتٍ، إذا تبدّى له خطأ قرار أو خَيار بترك وظيفته أو البقاء فيها!
بناء عليه، فالعبرة في التخصص الوظيفي أن تكون متمكّنًا فيه لا أن تتحجر عنده، والعبرة في التوسّع أن يكون بحسب حاجتك وموازناتك، والميزان في الحالين ارتضاؤك لوضعك، وإذا كان لا بأس في التنقل بين مجالات الاشتغال وتجريب مختلف الميول أو المهارات، كمرحلة من مراحل التعرف على طاقات الذات وبنائها، فلا بد من التنبه لوجه آخر يلتبس بهذا القصد ويختلف عن مفهوم المرونة، وهو "الأرنبية".
والأرنبية هي القفز بإفراط بين المهارات والتشتت بين كثرة المُجَرّبات، من دون جدية حقيقية أو بدون منهجية صحيحة، فصاحبها يملّ سريعًا ويهرب كثيرًا ويتدلل غالبًا ويتذمر دائمًا، ولا يراجع نفسه في جدّية قصده وحقيقة نواياه مما يفعل أو يترك، فلا يزداد بكلّ ذلك التجريب إلا شعورًا بالخواء الداخلي والضغط الخارجي، بدل أن تملأه كلّ تلك الخبرات، وتربّيه كلّ تلك التجارب.
العبرة في التخصص الوظيفي أن تكون متمكّنًا فيه لا أن تتحجر عنده، والعبرة في التوسّع أن يكون بحسب حاجتك وموازناتك
ومن أهم معالم الاختيار والمفاضلة بين أنواع المهن والوظائف:
- تعيين المقاصد والنوايا من الإقبال على العمل عامة، ثم المجال المختار خاصة: على ما سبق توضحيه في الاستشارات الأولى.
- تعريف مفاهيمك لـ: النجاح، الفشل، الطموح، الكفاية المالية... وأيّ مفاهيم أو معايير أخرى تهمك في نوعية اختياراتك.
- موازنة أولويات وأقدار المسؤوليات والمشاغل، بمراعاة الحدود الشرعية والمساحات المشروعة ونسبيّة الحركة الشخصية بينهما؛ فموازنات كلّ واحد تختلف بحسبه وإن تشابهت المسؤوليات ظاهريًّا، وأية موازنة تصل لها ستنبني على كفة تأخذ من كفّة غيرها كالموازنة بين: البيت والشغل، العزوبية والزواج، التفرغ للعلم والرضى بالكفاف، حاجات حالية وتطلعات مستقبلية... إلخ.
- سرد معطياتك: مهارات مهنية، علاقات ومعارف، طاقات شخصية، طباع أخلاقية... إلخ، وبالتالي تعيين المجال أو معايير الوظيفة التي تكون أصلح لك ماليًّا ومعنويًّا.
- موازنة المردود: ساعات وجهد العمل في مقابل المردود المالي والمعنوي وأنواع المزايا.
قيمة كل خطوة يخطوها العبد فيه وكل عمل يشتغل به تكمن في عبودية ذلك الوقت وأثناء ذلك العمل، فلا عمل يضيع ولا جهد مهدر في ميزان العبد ما احتسب عمله وجهده
- وكقاعدة عامة لحسم الذبذبة: يكفيك من كلّ هدف أو تطلّع في الحياة أن تَصِل لموقف واضح منه وتتخذ قرارًا بشأنه: إمّا أن تجرّبه لترى صلاحيته لك وأهليّتك له، أو تتركه بالكلية، أو تؤجّله لأَمَد جادّ طال أم قصر، أو غير ذلك من المواقف، لكن لا تعلّقه من باب التسويف المفتوح ولا التهرّب المستمر.
شيء من التفكر الجادّ المُرتَّب مع نفسك أولًا قبل الإقبال على تصفح الوظائف أو التنقيب في مجالات العمل، سيوفر عليك كثيرًا من التشتت والحيرة في المقارنة والمفاضلة في البداية، ثم في قرارات الترك والاستمرار لاحقًا.
ختامًا، لا وجاهة لرأي يحرّم أو يجرّم ما أباح الله تعالى من حركة في الحياة وتنقّل بين مساراتها وأشغالها المشروعة، وكل ما يظهر "فرصة" من وجه هو جهد مبذول وعمر منفق في المقابل من وجه آخر، فلا وجود للفرصة التي كلها عطاء من جهتها واستقبال من جهة مُقتنصها! ثم إن أعظم فرص العمر لكل إنسان عامة وللمسلم خاصة هو العمر نفسه، فقيمة كل خطوة يخطوها العبد فيه وكل عمل يشتغل به تكمن في عبودية ذلك الوقت وأثناء ذلك العمل، فلا عمل يضيع ولا جهد مهدر في ميزان العبد ما احتسب عمله وجهده.