دائمًا ينصب الحديث عن أولئك الذين يخالف عَملُهم عِلمَهم، وعن أن علمهم حينها لا قيمة له عند الله؛ فالعلم بغير عمل هباء وسراب.
لكن الأمر يحتاج لتفصيل وتوضيح:
فأولئك الذين يتعلمون العلم بلا عمل بعده، يبتغون به الشهرة وذيوع الصيت، ليقال عنهم "علماء" فهؤلاء ورد فيهم الحديث الشريف، الذي يخبر بأن أمثالهم من أوائل من تسعر بهم النار، فإن احتجوا بعلمهم على مصيرهم، كانت الإجابة للواحد فيهم كما وردت في الحديث وهو مسحوب إلى النار: لقد تعلمت ليقال عالم، وقد قيل.
وأولئك الذين يتعلمون العلم بلا عمل بعده، يبتغون به غرضًا دنيويًا؛ من مال ورئاسة وغيرها، فهؤلاء كسابقيهم: تعلموا العلم من أجل غرض دنيوي، وقد تُركوا إلى أغراضهم الدنيئة، حصّلوها أم لم يحصّلوها، وليس لهم شيء وراءها عند الله.
وأولئك الذين يتعلمون العلم، يبتغون به وجه الله، مخلصين في ذلك له، ساعين لمرضاته بعلمهم وعملهم، فأولئك هم الذين اختصهم الله بهداه، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]
العبرة في العلم والعمل بزيادة معرفة الله، وزيادة الحب له والخشية منه، والعلم المجرد، إن كان يزيد المعرفة بالله، ويزيد الحب له والخشية منه، فهو عمل مأجور، مثله في ذلك مثل العمل المجرد، كالصلاة والصيام وغيرهما
وفيهم تفصيل كذلك:
فالذي يتعلم العلم، يبتغي به وجه الله، مخلصُا غير مراءٍ ولا مشرك، والرياء معناه أن يتعلم العلم لغير الله بالكلية، والإشراك معناه أن يتعلم العلم لله ويشرك معه غاية أخرى، كأي غرض آخر غير إرضاء الله.
أقول: الذي يتعلم العلم، يبتغي به وجه الله، غير مُراءٍ ولا مشرك، ويعمل بعلمه هذا، فيقف عند كل عمل، ليهتدي بعلمه فيه، فيحل ما أحل الله، ويحرم ما حرم الله، فذلك العبد الذي أراده الله، وله قد خلق الأرض ومن عليها، ليستخلفه فيها، فيتعلم العلم، ويسير على هداه عاملًا مخلصًا، هاديًا مهديًا.
والذي يتعلم العلم، يبتغي به وجه الله، مخلصًا غير مُراءٍ ولا مُشركٍ، غير أن عمله لا يكون على قدر علمه، بل يتأخر عنه؛ قليلًا أو كثيرًا، ومع ذلك يستمر في تعلمه للعلم وطلبه له، إخلاصًا لله فيه، فهذا ما لا يُذم، وعلمه حينها عمل، يجازى به، مهما كان تأخر عمله عنه.
العبرة في العلم والعمل بزيادة معرفة الله، وزيادة الحب له والخشية منه، والعلم المجرد، إن كان يزيد المعرفة بالله، ويزيد الحب له والخشية منه، فهو عمل مأجور، مثله في ذلك مثل العمل المجرد، كالصلاة والصيام وغيرهما.
للعبادة الخالِصة، وللعلم الخالص، أكبر الأثرِ في إصلاح أربابهما، يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، مهما كان حال الأرباب، والفيصل: المداومة على العبادة وطلب العلم، ومداومة الإخلاص فيهما
وأن يكون العمل متأخرًا عن العلم أمر فيه تفصيل:
فالذي يتعلم العلم، يبتغي به وجه الله، ثم هو في حياته العملية بعيد كل البعد عن مرضاة الله، فلا يحل حلالًا ولا يحرم حرامًا، ولا يقيم وزنًا لشعائر الله وعباداته، فهذا ما يستحيل وجوده، فلا يتخيل عاقل، أن يجتهد إنسان في طلب العلم الشرعي، ويخلص في ذلك لله، ثم يكون حاله هكذا، هذا احتمال بعيد إلى درجة تقترب من الاستحالة! وإن وجد هذا الصنف، فهناك إشارة تكاد تكون جازمة، إلى أن تعلمه العلم لن يكون خالصًا لله، وسيكون فيه دخن لا محالة.
والذي يتعلم العلم، يبتغي به وجه الله، ثم هو في حياته العملية بعيد بعض البعد عن مرضاة الله، كأن يكون مقصرًا في بعض العبادات، أو واقعًا في بعض المحرمات، فهذا ما يجوز وجوده، بل هو موجود ومشاهد.
وعلى مثل هذا، أن يستمر في طلبه للعلم، ويثبت ويجدد إخلاصه فيه، فإن للعلم المُخلَص أثر في إصلاح صاحبه يشبه أثر العبادة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل الذي يصلي ويرتكب المحرمات: "ستنهاه صلاته"
للعبادة الخالِصة، وللعلم الخالص، أكبر الأثرِ في إصلاح أربابهما، يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، مهما كان حال الأرباب، والفيصل: المداومة على العبادة وطلب العلم، ومداومة الإخلاص فيهما.
العلم - كما قال العلماء - أفضل عند الله وأثقل في ميزانه من نافلة العبادات، والذي يجلس على كتبه وكراريسه وأقلامه، يبحث في مسائل العلم ويُفند فيها، مع تأدية الحد الأدنى من العبادات المفروضة، ومع الإخلاص والتجرد لله، هو عند الله أفضل من الصائم القائم الذاكر، المتنفل لله بذلك
والذي يتعلم العلم، يبتغي به مرضاة الله، وهو في حياته العملية، منضبط في جانبها المتعلق بارتكاب المحرمات والمكروهات، مقصر في جانبها المتعلق بتأدية العبادات والواجبات، فهذا أحسن حالًا من سابقه، وعليه مثل سابقه، بل وأكثر منه، أن يستمر في طلبه للعلم، ويستمر في إخلاصه فيه، فإنه سيكون وسيلته - بإذن الله - للصلاح، فيما هو مقصر فيه، من عباداته وواجباته.
والذي يتعلم العلم، يبتغي به مرضاة الله، وهو في حياته العملية، منضبطٌ في جانبها المتعلق بارتكاب المحرمات والمكروهات، مؤدٍ للحد الأدنى من العبادات والواجبات، غير مقصر فيها، وغير زائدٍ فيها عن حدها الأدنى، فلا يزيد فيها من التنفل، فهذا ما يجب عليه أن يستمر في طلبه للعلم، ويستمر في إخلاصه فيه، وطلبه للعلم مع الإخلاص فيه هو بمثابة التنفل في العبادات والزيادة فيها، بل هو أفضل عند الله وأثقل في ميزانه من نافلة العبادات.
العلم - كما قال العلماء - أفضل عند الله وأثقل في ميزانه من نافلة العبادات، والذي يجلس على كتبه وكراريسه وأقلامه، يبحث في مسائل العلم ويُفند فيها، مع تأدية الحد الأدنى من العبادات المفروضة، ومع الإخلاص والتجرد لله، هو عند الله أفضل من الصائم القائم الذاكر، المتنفل لله بذلك.
وأكمل الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك الذي جمع بين العلم في أعلى صوره؛ فقد تعلم العلم الذي أوحى إليه به ربه، بوساطة جبريل - عليه السلام - فكان علمًا من أعظم معلمٍ لأعظم متعلم بأعظم وساطة، وكان صلى الله عليه وسلم مع ذلك أعظم متعبد، لا يفتر عن الصلاة والصيام والقيام والذكر، ومع هذا وذاك، كان داعية، يخرج للناس في الطرقات والأسواق، بل ويطرق عليهم أبوابهم، ليدعوهم لله ولشريعته.
ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - بذلك أعظم درجة ومكانة عند الله في الآخرة، والذي يريد أن يجاوره في مكانه ومكانته، فعليه أن يهتدي بهديه كله، علما يتعلمه، وعملًا يعمل به، وإخلاصًا لله فيهما.
العلم في ذاته عمل، كنافلة الصلاة والصيام والذكر، ذلك للذي يؤدي الحد الأدنى مما افترضه الله عليه من الفرائض والواجبات، وللمخلص في علمه وتعلمه، وأكمل الهدي هدي محمد، وهو أن يصيب المرء من كل خير، من العلم والعبادة والدعوة
العلم في ذاته عمل، كنافلة الصلاة والصيام والذكر، ذلك للذي يؤدي الحد الأدنى مما افترضه الله عليه من الفرائض والواجبات، وللمخلص في علمه وتعلمه، وأكمل الهدي هدي محمد، وهو أن يصيب المرء من كل خير، من العلم والعبادة والدعوة.
يُروى أن الشافعي بات ليلة في بيت أحمد بن حنبل، فراقبتهم ابنة أحمد، فوجدت أباها قائمًا يُصلّي، والشافعي مستلقيًا يتفكر، فلما قضي الليل، قال الشافعي: لقد أفهمني الله كذا وكذا من المسائل، وأنت قائم تصلي يا أحمد.
وهنا، أشاد ابن حنبل بالشافعي أمام ابنته، وأخبرها بأن الشافعي قد انشغل عن صلاة الليل النافلة بتعلمه للعلم وبحثه فيه.
وهذه الرواية إن صحت، فهي تؤكد على المعنى الذي نتحدث فيه، وهو أن العلم يعدل عبادة التنفل، بل ويزيد عليها، غير أن أكمل الهدي، هدي محمد، وهو أن يصيب المرء من كل خير، علمًا في وقته، وعبادة في وقتها، وقيامًا في وقته، وذكرًا في وقته، ودعوة في وقتها.
وتُروى كذلك رواية تقول: إن الجنيّد رُؤي في المنام بعد موته، فسأله السائل: ماذا فعل الله بك؟ فرد الجنيّد: طاحت تلك الإشارات، وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم، وما نفعنا إلا ركيعات كنا نصليها عند السحر.
وهذه الرواية إن صحت، فهي تأكيد على أهمية الجانب العملي في حياة الإنسان المسلم، لكنها لا ينبغي لها أن تنفي أهمية العلم والتعلم، ذلك لأن العلم هو وسيلة العمل، وهو وسيلة إتقانه وإحسانه، وهو وسيلة إخلاصه وتجريده.