تحرر الأمة مرهون بتحرر هذه العواصم!

الرئيسية » بصائر الفكر » تحرر الأمة مرهون بتحرر هذه العواصم!
arab-spring

إن أمتنا الإسلامية تمر بمحاولات لتغييب الشريعة، وهدم الثوابت، وطمس الهويَّة، والتنكر لكل صفحة مُضيئة من تاريخ الأمة الإسلامية، والسخرية من كل مظهر من مظاهر ديننا الحنيف، بل وإرجاع كل ما تعانيه أمتنا الآن من تخلف عن ركب الحضارة إلى تمسكها بما جاء به الشرع وإلى سيرها على ما سار عليه سلفها الصالح... إلى غير ذلك من أباطيل وأراجيف وترَّهات ما أنزل الله بها من سلطان!

إن واجب الوقت - والحال كذلك - يُوجب على المخلصين في كل زمان ومكان أن يبذلوا جهدهم لتفنيد كل هذه الشبهات، ولإزالة كل ما علق بالدين وليس منه، ولتقديم صورته الناصعة المشرقة للبشرية، ولا يجب أن يستقر لهم حال حتى تشرق الأرض بنور ربها، وحتى يدخل الناس في دين الله أفواجًا!

إن ذلك كله لن يكون إلا من خلال إعداد "رواحل" في ثبات الجبال ورسوخها، رواحل يعيدون للإسلام مجده الذي بلغ عنان السماء، وهيبته التي ارتعدت لها فرائس كسرى وقيصر، ويعيدون له سُمُوَّه الذي شهد له العدو قبل الصديق.

والنظرة الأعمق والأشمل والأدق لكلمة رواحل تحتم علينا ألا تكون نظرتنا لهذا المفهوم قاصرة على الإبل ولا على الأشخاص فحسب بل يجب أن نتخطى ذلك كله وننظر إلى المدن والعواصم، فرُبَّ مكان لو نهض لنهضت بنهضته عواصم ودول، ولفتحت بلدانًا وأمصارًا.

أولًا/ أكثر عواصم الدول الإسلامية في حاجة إلى أن نعدها لتكون من الرواحل

إن الجسد إذا مرض فإن الشغل الشاغل يكون هو الحفاظ على أعضاء الجسم الأساسية سليمة تؤدي وظيفتها، وما بقي من أعضاء يأتي تباعًا، بل إن تعافي الأعضاء الأساسية قد يتبعه تعافي باقي الأعضاء بدون تدخل ولا عناء، وهذا المثال كما أنه ينطبق على جسد الإنسان فإنه ينطبق كذلك على جسد الأمة الإسلامية؛ فلو أننا استطعنا خصّ عواصم الأمة الإسلامية الأولى بالرعاية ورعايتها الرعاية اللازمة، لاختصرنا الطريق ولقطعنا شوطًا لا يُستهان به في سبيل نهضة الأمة، وإن من ينظر لخارطة الأمة الإسلامية وينظر للعواصم التي كانت مركز اهتمام أعدائها لوجدنا أن أعداء الإسلام قد أعدوا عدتهم وجيشوا جيوشهم وصوَّبوا سهامهم تجاه عواصم بعينها ليقينهم أنهم لو تمكنوا من فرض سيطرتهم على هذه العواصم يكونوا بذلك قد سيطروا على الأمة الإسلامية كاملة.

إن العواصم الإسلامية التي صوَّب أعداء الإسلام سهامهم نحوها تتمثل في عواصم خمس دول وهي: (مصر، تركيا، سوريا، العراق، الجزائر) ومن أجل إحكام أعداء الإسلام قبضتهم على هذه الدول الخمس شرعوا بـ:

• غرس جسم سرطانيٍّ يتوسط (مصر وسوريا والعراق)، وهو (دولة الكيان الصهيوني) بما تحصل عليه من تأييد وتمويل دولي للحد الذي جعلها تعربد في المنطقة بأسرها بدون أدنى احترام للمواثيق الدولية وبدون أي رادع، والحرص على أن تكون الأنظمة في هذه الدول الثلاث أنظمة منبطحة تقدم كل فروض الولاء والطاعة للغرب، وإقناعها بأن بقاءها في سُدَّة اَلْحُكْمِ مرهون بتنفيذ ما يُملى عليها!

• الاحتلال الفرنسي للجزائر الذي عمل على طمس هويتها واستنزاف خيراتها وكلفها أكثر من مليون شهيد.

عمل أعداء الأمة الإسلامية على تقوية شوكة الأكراد على الحدود التركية السورية من أجل استنزاف الدولتين!

• إشعال نار الفتنة بين الجزائر وبين دول الجوار من خلال محاولة كل دولة فرض هيمنتها على (الصحراء الغربية) وتطور الأمر إلى نشوب مواجهات عسكرية بين الجزائر والمغرب عرفت بـ "حرب الرمال" وذلك عام 1963م، واندلاع حرب العصابات من خلال (جبهة البوليساريو) التي أُسست عام 1973م.

• أما بالنسبة لتركيا فلا يخفى على أحد ما حصل فيها من (إلغاء الخلافة الإسلامية) التي كان مقرها (اسطنبول) وطمس الهوية الإسلامية في تركيا وإغراقها في كل ما يضمن خلع ربقة الإسلام من عنقها، وعلى صعيد آخر عمل أعداء الأمة الإسلامية على تقوية شوكة الأكراد على الحدود التركية السورية من أجل استنزاف الدولتين!

• كما عمل أعداء الأمة الإسلامية على مساندة حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي نشأ في السبعينيات على خلفية يسارية انفصالية وتصنفه لوائح الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي واستراليا وتركيا وإيران وسوريا على أنه منظمة إرهابية.

• وبالنسبة للجانب الأوروبي فقد ناصب تركيا العداء ومنع انضمامها للاتحاد الأوروبي، بل وعملت الدول الأوروبية على مساندة التيار العلماني التركي وتقوية شوكته ليكون مصدرًا للقلق داخل تركيا!

إن عواصم هذه الدول الخمس تمثل الرواحل بين عواصم الدول الإسلامية، ومتى دبت روح التحرر في أوصالها، وهيمنت فكرة العودة للهوية الإسلامية على أذهان أبنائها نكون حينها قد بدأنا السير في الاتجاه الصحيح؛ لأنه بالتبعية ستسير بقية العواصم على نهجها.

ثانيًا/ أقرب العواصم الإسلامية للتحرر وقيادة قافلة بقية عواصم الدول الإسلامية

إن من ينظر لما يدور على الساحة من أحداث يدرك أن (اسطنبول) هي أقرب العواصم للتحرر والخروج من هيمنة أعداء الأمة الإسلامية، والدليل على ذلك هو ما حدث ليلة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا عام 2016مح فقد كانت أنظار العالم عامة والعالم الإسلامي خاصة تتجه نحو (اسطنبول) تراقب ما يحدث؛ وقد ظل الجميع يحبس أنفاسه ويقف على أطراف أصابعه إلى أن أُحبِطَت محاولة الإنقلاب، كل ذلك لأن هناك من تمنوا نجاح الإنقلاب لتعود تركيا للوراء بضعة عقود قطعتها نحو التحرر، وهناك من تمنوا فشل الإنقلاب للحفاظ على المكتسبات التي تحققت على طريق التحرر!

الجميع يعلم أن القاهرة هي البوابة الرئيسة لبقية القارة الإفريقية، والقاهرة هي محط أنظار أصحاب التوجهات الأيديلوجية وأصحاب المصالح السياسية والاقتصادية

ومن ينظر على الساحة أيضًا يدرك أن ثاني العواصم على طريق التحرر هي (القاهرة)، والدليل على ذلك أنه في يوم فوز الرئيس مرسي - رحمه الله - في انتخابات الرئاسة عدّه الشرفاء - في كل أنحاء العالم - يومًا من أيام الله، كما أن شرفاء العالم يعدّون ليلة الإنقلاب الأغبر في مصر عام 2013م ليلة ليلاء وما حدث هو ردة فعل على مكتسبات الثورة وما يزالون يبادلون الإنقلابيين العداء والكراهية إلى يومنا هذا.

وبالرغم من قيام طغمة الإنقلابيين بتكريس كل مظاهر انسلاخ القاهرة من الهوية العربية والإسلامية إلا أنها ما زالت تحمل عوامل صمودها في وجه موجة التغريب والتغييب هذه، ومتى يأذن الله بزوال الطغمة الباغية ستعود للقاهرة أصالتها وهويتها، وسينجرف الغثاء بلا رجعة إن شاء الله تعالى.

إن الجميع يعلم أن القاهرة هي البوابة الرئيسة لبقية القارة الإفريقية، والقاهرة هي محط أنظار أصحاب التوجهات الأيديلوجية وأصحاب المصالح السياسية والاقتصادية، وكل ذلك يجعل جميع هذه الأطراف تحرص على تهدئة الأمور في القاهرة، والتهدئة المقصودة هنا ليست التهدئة التي تحقق لمصر سلامتها واستقرارها، وإنما هي التهدئة التي تضمن الحفاظ على مصالح الطامعين بها.

إن الواقع والتاريخ يشهدان أن قوى العالم تتعامل مع مصر كقطعة إسفنج عالقة على سطح الماء، فهم لا يريدونها أن تغرق فتغرق معها كل مصالحهم وأطماعهم، ولا يريدونها أن تطفو فتستقل بقرارها وتقرر مصيرها بنفسها، وتتحد مع غيرها لتكوين قوة لا يُستهان بها تكون هذه القوة هي رأس قاطرة التحرر في العالم العربي والإسلامي.

النظرية التي تتعامل بها قوى العالم مع مصر تجعلهم لا يخوضون حربًا دموية ليحافظوا على نظام مستبد؛ لأن مصالحهم تأتي في المقام الأول لذا فهم يتدخلون إذا تأزمت الأمور بمصر وأوشكت على الانفجار ويبحثون عن أي بديل يضمن تحقيق مصالحهم وأطماعهم بها

إن هذه النظرية التي تتعامل بها قوى العالم مع مصر تجعلهم لا يخوضون حربًا دموية ليحافظوا على نظام مستبد؛ لأن مصالحهم تأتي في المقام الأول لذا فهم يتدخلون إذا تأزمت الأمور بمصر وأوشكت على الانفجار ويبحثون عن أي بديل يضمن تحقيق مصالحهم وأطماعهم بها، وإن فهمنا لهذا المنطق في التعاطي مع أحوال مصر وحرصنا على غرس هذا الفهم في نفوس الجماهير كفيل بإحباط كل المخططات التي تستهدف مصر داخليًا وخارجيًا، فالجماهير هم المحرك الأساسي لحركة التغيير، وهم الرهان الذي يراهن عليه الجميع، فمن ضمن تأييد الجماهير فقد ضمن حسم نتيجة الصراع.

إن كل ما نقوله يفهمه أعداء الأمة جيدًا لذلك فهم يجندون أوفى أذنابهم وأكثرهم إخلاصًا في هاتين العاصمتين (مصر وتركيا) ويبذلون الغالي والنفيس من أجل تأخير ساعة المواجهة ولحظة الحسم!

إن كل ذلك يحتم علينا أن نستعد بكل ما أوتينا من قوة من أجل استعجال ساعة المواجهة ولحظة الحسم، على أن تكون مواجهة مدروسة وحسمًا مُستحقًا؛ لأن الفشل في ذلك سيكون معناه فشلًا طويل المدى لا يعلم عواقبه إلا الله، والإنقلاب الحادث في مصر الآن صورة مصغرة لما قد يحدث، وعلينا أن نوقن بأنه...

لا يَسلَمُ الشَرَفُ الرَفيعُ مِنَ الأَذى :: حَتّى يُراقَ عَلى جَوانِبِهِ الدَمُ

إن المقصود بالمواجهة هنا ليست المواجهة العنيفة المسلحة ولكنها المواجهة العاقلة الراشدة التي تنظر للميدان من كل أبعاده ومراميه وتستقرىء الأحداث ومآلاتها ولا تتعجل قطف ثمارها.

قد يقول متهور إن هذا النوع من التفكير لا يُجدي نفعًا وأن النبي ﷺ وصحابته الكرام إنما خاضوا معارك شرسة من أجل نشر الإسلام وتأديب من يقفون عائقًا أمام ذلك!

النظم المستبدة لا تعترف إلا بالقويّ، وإذا وُجد تراها تخطب وده وتنشد رضاه، وتمنحه ما لم تمنحه إياه من قبل، وتجلس معه على مائدة واحدة وتقبل منه أن يُملي عليها شروطه

إن المسكين قد نسي أن النبي ﷺ وصحابته الكرام لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن عمدوا إلى تأسيس دولة مستقلة فكريًا واقتصاديًا وسياسيًا.
إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو:

ما هي المتطلبات الأساسية للتغيير في ظل الظروف الراهنة وفي ظل القبضة الحديدية التي يقبضها النظام ويحرص عليها من أجل وئد أية حركة للتغيير في مهدها؟

والإجابة على هذا السؤال هي أن المتطلبات الأساسية للتغيير في ظل الظروف الراهنة، تتمثل في:

1. قيادة ثورية راشدة ناضجة تثق بها الجماهير المتعطشة للتغيير من سائر الأطياف وتلتف حولها، قيادة فاعلة مؤثرة تستطيع جمع الجزر المنعزلة في كيان واحد، وصهر الجهود المتناثرة في بوتقة واحدة.

2. نخبة مخلصة واعية متجردة تحسن تشخيص الواقع على كل الأصعدة، وتحسن ترتيب القضايا والأولويات، وتحسن وضع أسس التعاطي مع القضايا ومع كل الشرائح والفئات.

إذا أذن الله تعالى بتحقق هذين المطلبين - وما ذلك على الله بعزيز - فإننا سنكون أمام قيادة قادرة على تقديم خطاب يجمع بين الرشد والنضج وبين التمسك به والحماسة له، حينها نستطيع أن نقول إننا قد بدأنا أول خطوة على طريق التغيير، والواقع والتاريخ يشيرا إلى أن الأمة لم تخذل يومًا قيادة ثورية راشدة ناضجة خاصة إذا التفت حولها نخبة مخلصة واعية متجردة.

أخيرًا أقول:
إن النظم المستبدة لا تعترف إلا بالقويّ، وإذا وُجد تراها تخطب وده وتنشد رضاه، وتمنحه ما لم تمنحه إياه من قبل، وتجلس معه على مائدة واحدة وتقبل منه أن يُملي عليها شروطه لا لشيء إلا لأن هذه النظم المستبدة تشعر بأن الأرض تهتز تحت أقدامها، وأن ما كانت تفعله بالأمس لم يعد مُجديًا اليوم؛ فموازين القوى قد تغيرت، وطبيعة المواجهة قد تحوَّلت من اعتبار المحافظة على النفس مكسبًا إلى اعتبار بذل النفس من أجل الغاية مطلبًا.

اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رُشد يُعز فيه أهل طاعتك ويُذل فيه أهل معصيتك.

خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …