حيرة اختيار مجال العمل: بين دافع الرسالية والعائد المالي

الرئيسية » بصائر من واقعنا » حيرة اختيار مجال العمل: بين دافع الرسالية والعائد المالي
حيرة اختيار مجال العمل بين دافع الرسالية والعائد المالي 1 1

من المفترقات التي تشتد عندها حيرة كثير من المسلمين، اختيار مجال عمل أو اتخاذ قرار بالبقاء فيه أو تركه، إذ تصعب الموازنة عادة بين العائد المالي والرسالية الكامنة؛ فغالب الأعمال التي يعلو عائدها المادي لا تظهر فيها رسالية معتبرة، كما في الشركات والتخصصات التقنية مثلًا، بينما تلك التي عُرفت بالرسالية لا تعد مربحة ماليًا كالتعليم والتطبيب.

وأول الخيط في جلاء هذه الحيرة إدراك أن المقصد الأساسي من الاشتغال والمهنة: الكسب الحلال، ولا يعني ذلك انعدام الدوافع الأخرى للعمل، أو أن يبلغ البعض من الاستغناء ما يجعلهم يطمحون من العمل لمقاصد أخرى، وإنما الوعي بالقصد الجوهري والأساسي يحرر المرء من عُقَد التحرّج المذموم من المال، منها دناءة النظرة للعمل "من أجل المال فقط"، فالعمل لكسب المال لا يعني الدلالة المذمومة لعبارة "العمل لأجل المال"، فالمسلم يعمل لوجه الله تعالى ويمتثل أمره حين يتحرّى الكسب من حلال، فيُثاب على ذلك حين يحصّل لنفسه أيضًا حظوظًا ومصالح مما يعمل.

لا وجه للتحرج من العمل بغية التكسّب فحسب، بل قد يدخل التكسّب أحيانًا في مرتبة الفرض، فيكون فرضًا شرعيًا عينيًّا على فرد في أسرة كمن يَعُول من تَلزَمه مُؤنَتُهم أو كمن يعول نفسه

بل إنّ الكسب الحلال له خَطَره في الشرع، إذ هو من سنن الله تعالى في الوجود وتسيير مصالح العباد، فهو شأن معتبر ونوع تعبُّد محترم، طالما الكسب حلال والعمل مشروع، فلا وجه للتحرج من العمل بغية التكسّب فحسب، بل قد يدخل التكسّب أحيانًا في مرتبة الفرض، فيكون فرضًا شرعيًا عينيًّا على فرد في أسرة كمن يَعُول من تَلزَمه مُؤنَتُهم أو كمن يعول نفسه، وقد يكون فرضًا كفائيًّا على مجموع، وتأمّل في حِرَف الأنبياء - عليهم السلام - بين النجارة والحدادة والخياطة والتجارة، فضلًا عن رعي الأغنام، وكان التخلّق بأخلاق الرسالة والتزام أحكامها في تلك الحِرَف المهنيّة البحتة وسيلة من وسائل الدعوة.

هذا ويمكن أن يعمل العامل لدوافع ومقاصد مشروعة أخرى، قد يكون من بينها الكسب، أو لا يكون إذا كان صاحبها مستغنيًا، والمقصود بكونها مشروعة أنها جائزة شرعًا، لا أنها مفروضة مُلزِمة، منها: بناء علاقات اجتماعية ومهنية، تغيير الأجواء، استكشاف الطاقات واكتساب خبرات ومهارات، نفع الغير... إلخ.

ومن أكبر مداخل القلقلة والتذبذب والحيرة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالمسار المهني والمجال الوظيفي، عدم وضوح مقاصد العمل أصلًا في نفس صاحبها، أو خلطه للمصالح المشروعة والواجبات الشرعية، فيوقِع نفسه في التزامات غير مُلزمة له إلا لأنها تعد اختياراته الشخصية، أو يفرّط في المقابل فيما تعلّق بذمّته الشرعية بدعوى عدم موافقته لموازناته.

ثم إن دافع كسب المال وكفاية النفس دافع شريف ومحمود ومطلوب، ولا حرج على المؤمن ولا داعي لتهرّبه من حقيقة ابتغائه لمصالح حياتية وحاجات معيشية وحظوظ شخصيّة مشروعة، فلا يوجد بشر يمكنه أن يتجرّد بالكليّة من تلك الضرورات، وإنما مكمن الإشكال في التلبيس والتدليس وعدم الصدق في النفس أولًا؛ لأنّ الصدق في تعيين النوايا وتسمية غاياتك باسمها مما يُعين على اتخاذ المواقف والقرارات، فمِن النوايا المشروعة – مثلًا - قصد الكسب الحلال لكفاية النفس بالأساس ثم من يليها، وهذا لا يتطلب إلا تخيّر مهنة توافق مهاراتك، أو احتراف مهارات المهنة التي تكسب منها، ثم هَب أن الله أكرمك بمهنة لا تتكسّب منها فحسب بل تجد فيها "رسالتك" وما في معناها.

لا إشكال في التنقل بين المهن بحسب حاجة الكسب، ولا حرج في المهنة بغرض الكسب، سواء وجدت رسالتك فيها أم لم تجد، ولا داعي لتحجير قصد الرسالية في نفس المسار

فإذا لم تكن منتبهًا من البداية لنيتك الأصلية ومشروعيّتها، ستصل على المدى لمفترق تشعر فيه بذنب التقصير حين ينتفي ذلك الشعور بالرساليّة من العمل لسبب ما لكنك ما تزال تحتاج للكسب منه، أو تصل لمفترق آخر تجد فيه الرسالية مستمرة، لكن مقدار الكسب لم يعد كافيًا لك، فتبدأ أزمة تساؤلات: هل أستمر في العمل لأجل المال فقط؟ هل أضحي بالرسالة لأجل المزيد من المال؟ أيهما أولى: المال أم الرسالة؟

ومكمن الأزمة في كل ذلك على الحقيقة في كل ذلك هو الخلط بين حاجتك العينيّة للمال من المهنة (وهذا غرضك الأصلي منها)، وحاجة الرسالة الكفائية لك في تلك المهنة (وهذا غرض مضاف يمكن أن يتحقق من مسارات أخرى غير المهنة)، وإذ ذاك، لا إشكال في التنقل بين المهن بحسب حاجة الكسب، ولا حرج في المهنة بغرض الكسب، سواء وجدت رسالتك فيها أم لم تجد، ولا داعي لتحجير قصد الرسالية في نفس المسار، فأرض الله تعالى واسعة، وكلّ هذه الموازنات لا تُخرج العبد كما أسلفنا من سَعَة ابتغاء وجه الله تعالى ولا تنفي صدقه، بدليل أنه لو وُضع في سياق كانت الحاجة لمهاراته فيه حاجة شرعية عينية لأدّى ما عليه من واجب، بغض النظر عن قدر الكسب منه، بل ولو لم يكن يتكسب منه أيضًا.

لذلك فالعلم بحدود الشرع ومساحات الحركة المشروعة، والصدق في تعيين مقاصد النفس، كلاهما لازمان لسداد الاختيارات ورشد القرارات، والحياة الطيبة عامة، وفي المقابل، وبال تدليس النية عائد على صاحبه ولا يخادع به إلا نفسه.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

من عوامل ثبات أهل غزة

قال تعالى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم …