هذا الكتاب هو أشبه بمحاولة تربوية متكاملة كتبتها المؤلفة في قالب أدبيّ لبناء وتشكيل دقيق للإنسان مستأنسة بآي القرآن، إذ تعدّ كل كلمة منها وكل حرف ينطوي على حكمة، ويمثل لبنة حقيقية لبناء الإنسان؛ لأن سر بناء الإنسان وقانون بعثه من الهامش إلى التمكين مودع في القرآن الكريم.
والإنسان يمضي إلى الله تعالى فارغًا من رسالة القرآن ما دام القرآن وكلمه يتردد في حناجر البشر، ويتجلى في أفواههم، بينما لا يبدو أثره على ثيابهم وعيونهم وملامح وجوههم، ولا في توقيع حضورهم على منصات التغيير.
وقد ذكرت في مقدمتها للكتاب أمرًا مهمًا هو أن الاستعمار كان يشجع إقامة مراكز حفظ القرآن بينما يقتل العلماء، إذ لا أثر للنص إذا فرغ من مضمونه وانسلخ عن الفهم، فعمر الأمة صار باهتًا يُقطع بنصف إغماضة، أو بعمى تام، أو براحلة مثقوبةٌ سلال الزاد عليها!
ولعل تلك الجدوى الأهم من البحث في فقه المعاني وفقه بناء الإنسان في القرآن الكريم، إذ صنع القرآن إنسان الرسالة - منذ أكثر من 1400 عام – وخلال تلك الأعوام بنى قامات شيدت حضارة إسلامية مبهرة، فقد كانت الكلمات تعيد تشكيل العقل والنفس والسلوك.
نبذة عن المؤلف
كفاح كامل أحمد أبو هنود، كاتبة أردنية في المجال الأدبي التربوي، مهتمة بالتوجيه التربوي، حاصلة على الدكتوراة في التفسير وعلوم القرآن، أستاذة جامعية وناشطة في العمل الشبابي والنسائي، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، ومؤسسة برامج تعتمد المعرفة أساسًا للتربية.
عملت كأكاديمية وأستاذ مساعد في عدة جامعات عالمية في السعودية، تركيا، ماليزيا، وأمريكا، شاركت في عدد كبير من المؤتمرات العلمية، الفكرية، التعليمية، والتربوية على امتداد العالم، كما ترأست عددًا من المناصب المؤثرة وذات الطابع القيمي.
أضافت إلى المكتبة العربية عددًا من الكتب، منها: كتاب "نحو المعالي" (كمؤلف مشارك) - كتاب "التوظيف الحداثي لآيات المرأة" - كتاب "فقه بناء الإنسان في القرآن" - كتاب "في صحبة الأسماء الحسنى"، كتاب: "على خطى إبراهيم" بالإضافة إلى عدة أبحاث محكمة.
مع الكتاب
أسست المؤلفة للكتاب أساسًا متينًا تؤكد فيه فكرتها عن بناء الإنسان بآي القرآن في 53 لبنة، بدأتها بأهم أمرٍ إلهي ابتدر الله سبحانه به الرسالة المحمدية "اقرأ" فحين كان النبيّ - وهو البشريّ الأكرم صلى الله عليه وسلم – يبحث بحثًا مستميتًا عن الحقيقة، يجيبه المولى بقوله: "اقرأ" ولذلك ركزت المؤلفة في البدايات على القراءة وأدواتها كالقلم والتعليم والوعي، والتفكّر.
لبنةً فلبنة أخذت تتدرج بين التعليم، الكتابة والقراءة، أسبابها، وظائفها، وفوائدها... إلخ. فآدم – عليه السلام – لم يكن سوى كومة من حمأ مسنون يتحول بقدرة الله تعالى إلى نقطة النور التي تثور حولها تساؤلات الكون، وهنا يتبادر للعقل الواعي أن هنالك ثمة تسبيح وذكر أعمق وأهم يكون بلغة العلم والوعي.
وتنتقل للحديث عن القلم؛ لأن هذه الأداة هي من ستكتب خارطة الإنسان القادم وتقيم الحضارة الإنسانية مقامها، فكان الأمر الإلهي "اقرأ" و "اكتب" ذا قدسية خاصة، فما كتبه القلم خالد أبد الدهر، ومترجم على شكل أقدار حكيمة وواقع مشهود.
اقرأ أيضًا: اقرؤوا تصحُّ عقولكم
تقول المؤلفة في فصل لاحق عن ذلك: "النفس العاجزة عن القراءة واليد المبتورة عن القلم، والروح التي لا تنظر إلى الأعلى لا تصلح للصلاة ولا الجهاد؛ فهي معطوبة فارغة من وقودها" وتقول: "الشوق إلى الله يحملنا خارج الزمان وخارج المكان ويبقينا على بساط القرب بلا أمنية إلا لقاء الحبيب"
وبين اللبنات الأولى أيضًا تحدثت المؤلفة عن التطهير، ومجانبة الشهوات وهجر الملهيات المحرمة، والإيثار، والتصدق، فبين آيات القرآن ما يدهش القارئ في تقنية بناء الإنسان، وتضيء على فوائد التطهير ومعناه وتدعو القارئ ليقرأ ما وراء كلمات القرآن بعمق يساعده في بناء نفسه مبدءًا فمبدءًا، ولبنة فأخرى.
تقول: "القصة أن الثياب التي سيقبلها القرآن منذ اللحظة لن تتسع لأمرين، فإما الطهارة المكتملة، وإما التخليط ولوثات الجاهلية الأولى" وترك الشهوة حسب اعتقاد السلف: "ترك شهوة من شهوات القلب أنفع للعبد من قيام سنة وصيامها، وترك فِلْسٍ حرامٍ أحب إلينا من التصدق بمائة ألف فلس"
ومن ضمن ترك الشهوات بالمعنى الذي يبني الإنسان، قيام الليل: "في الليل نلتقي بأنفسنا، بانحناءاتنا، بعجزنا، وتباريح الضعف فينا" ففي الليل ينساب الترتيل في الإنسان ويصغي لإيقاع المدود فتسمو روحه بعيدًا، ويصحو بعد نومة قصيرة هنيئة شخصًا آخر.
وفي لبنة أخرى تقول المؤلفة: "هل كانوا يدرون أن السماء تضحك لصوت موائد الفقراء وهي تصطفق بالأطباق للصغار! هل كانوا يعلمون أننا نموت بالجشع، بالتراكم، بالتكاثر، نموت يوم نجمع ثيابنا ونغدو على حرد قادرين"
وبعد ذلك كله تبشّر الملتزم بأن أجرًا ممتدًا ينتظره، غير منقطع وغير ممنون، ولا منتهٍ، فتقول: "ما معنى أن تصبح حفنة العمر الضئيلة دهرًا ممتدًا، وأن للسعي المحدود على الأرض صدى في عمق الوجود" وتضيف الكثير من البشائر والمغريات لمن ينفق ويعطي ويلتزم ما خلق لأجله.
ولم يفت المؤلفة أن توضّح للقارئ والمستفيد الأسباب التي تقنعه ليجتهد في بناء نفسه حسب معاني القرآن أوامره، ونواهيه، وكيف يفعل ذلك، وما معنى ذلك كله؟ فتقول: "نحن من نكتب رواية حياتنا، مشاهدها خواتيمها، والمقطع الأخير فيها، ثم نلونها بما يتوهج فينا وفي الزمن القادم، ينادى علينا بما كان يستتر أو يشتعل فينا، أو يتوهج في خبايانا"
اقرأ أيضًا: 9 كتب خفيفة لخوض رحلة القراءة
وفي إحدى اللبنات التي أفردتها لفعل اتسمت به الجاهلية، وقد حرمه الإسلام وألغى الظلم الكبير الذي كان يوقعه ذلك الفعل وهو (وأد البنات) فربطت بين انتهاء هذا الزمن المظلم وتنفس الصعداء بشروق شمس الإسلام وانفلاق صبحه العادل الجميل.
وبعد ذلك كله تسوق بشارة جميلة وهي: "أفلح من تزكى" إذ أن الجائزة هي الفلاح وليس النجاح وحسب وما أكبر الفرق بين المعنيين؛ فالمكافأة هي جني الفلاح والحصاد والنماء، وتلك حصيلة من تزكّى وعكف يقتلع الشوك من خفايا النفس بمنجل التزكية، ثم تتبع تلك اللبنة بلبنات مبشرة أخرى: "نيسرك لليسرى – تهنأ بالنفس المطمئنة – ولسوف يعطيك ربك فترضى..." وكل تلك جوائز تحفّز العاقل المحب المشتاق.
بعد كل هذا تنبهك إلى خطاب إلهي مُهم جدًا: "ما غرَّكَ بربك الكريم؟" إذ من العار أن يمضي عمرك ولم تتنبه إلى معنى وجودك، وما هو آت، ولا تصلح ما أنت عليه بينما كان معك وبين يديك الكثير من النعم، الكثير من الوقت.
لم يعد يخفى على القارئ العزيز تنقّل الكاتبة بين اللبنات الـ 53 حيث نعمة من نعم المولى وجائزة من جوائزه سبحانه وقصص النجاح والمواقف الخالدة والمؤثرة لرجال ونساء صنعوا التاريخ بمواقفهم المشرفة، حتى ينتهي بها الأمر إلى إقناع القارئ بوقفاتها مع تعامل الإسلام مع اليتيم وكيف داواه ومسح ذاكرة الألم بالرسالة، وكيف كرم امرأة مثل (أروى القيروانية) وكيف تكفل بالإنسان، حفظه وحافظ على حقه، علمه، طبطب عليه، حذره من الخطأ والزلل، حنا عليه، أنذره وحذره إذا وجده مُهمِلًا وغير مهتم، ثم التمس له العذر قبل أن يُجَرِّمه أو يوقع عليه العقوبة.
ويجدر بي أن أدلّك على لبنة من أعظم وأجمل اللبنات التي أفردتها المؤلفة نتوقف فيها في حضرة سورة الفاتحة والتي تكاد تكون أكثر فصول الكتاب جمالا وهيبة وخشوعًا، فكلمة البدء والمفتتح فيها "الحمد لله" التي تعدّ كلمة الوصل الأولى مع الله سبحانه وتعالى.
تقترب من نهاية الكتاب ونهاية اللبنات وأنت تقرأ إلّا أنها لن تنتهي من نفسك؛ لأنك ستكتشف كم أنها أزالت ضباب الفهم إذ كنت تحمل في قلبك الكثير من التشويش والعتمة، بينما أخذت الكاتبة بيدك لتريك كيف يمكن أن يعينك القرآن الكريم لتتخلص من كل هذا الدجى.
اقرأ أيضًا: 9 عادات تجعل القراءة عادة يومية
ختامًا..
القارئ لهذا الكتاب القيّم والمتأمل معانيه يكتشف كم أن الكتاب في كل صفحة من صفحاته يكاد يتحدث ويقول: "بدون فقه القرآن، أنتم كثير... ولكنكم غثاء كغثاء السيل.. للأسف" ونتبين أن الهدف الأسمى لهذا الكتاب هو ألا يكون المسلمون كغثاء السيل وألا يظلوا على ذات الموجة من العمى واللهو.
ببلوغرافيا الكتاب:
العنوان/ فقه بناء الإنسان في القرآن
المؤلف/ د. كِفَاح أبُو هَنُّود
الناشر/ عصير الكتب للنشر والتوزيع – القاهرة، مصر.
تاريخ النشر/ الطبعة الأولى: سبتمبر 2020.
الصفحات/ 324 صفحة (من القطع الكبير)