دلالة كلمة البديل في السياق المهني خاصة مخيفة للكثيرين؛ لأنها توحي بحتمية توفر شاغر وظيفيّ وامتناع المعيشة بدون غيابه، وبالتالي حتمية ترك الوظيفة لوظيفة، وحرمة ترك الوظيفة بدون ضمان وظيفة بديلة!
مع أنّ أخذ خطوة للأمام لا يتطلّب أن يكون طريقها حتى نهايته ماثلًا أمامنا كما ذكرنا في هاجس الضمانات، بل إن كلّ المطلوب أن تتضح هذه الخطوة في ذاتها، وربما التي تليها؛ لأنّ الأصل في سَيْرنا أنه بالغيب.
والمسلم يوقن أنّ الله يفتح ويرزق ويوفق بالغيب، فلن تمكن رؤية ما وراء الباب حتى تفتحه، وليس كلّ باب يتأتى لك أن تفتحه لتخطف نظرة، فإذا لم يعجبك تعود أدراجك كأن شيئًا لم يقع!
وأما الهاجس المادّي والفزع من غياب الضخّ المالي الثابت على هيئة المرتب الشهري، فجوابه أنّ الله هو الرزاق قبل وأثناء وبعد التوظّف، فهو رازق المال والوظيفة وطاقة الكسب جميعًا، ثم إنّ المحتاج لترك وظيفة يمكنه النظر في حاله المالي، لعلّ معه من المدخرات ما يكفيه زمنًا ولو قصيرًا حتى ينقّب في وجهة أخرى، وحين نأتي لهاجس خوف الفراغ القاتل، فهذا إشكال ليس سببه ترك الوظيفة، بل هو إشكال بسبب أمرٍ ما لم تواجهه في حينه، ولم يحلّه الهروب للوظيفة من البداية، فحين ملأتَه بالوظيفة صارت هي حياتك، لذلك يبدو الترك بمثابة تخلٍّ عن الحياة، لا حركة في الحياة، فتأمّل وتنبّه!
الفزع من غياب الضخّ المالي الثابت على هيئة المرتب الشهري، فجوابه أنّ الله هو الرزاق قبل وأثناء وبعد التوظّف، فهو رازق المال والوظيفة وطاقة الكسب جميعًا
والهاجس الثالث من هواجس ترك الوظيفة هو خشية فوات فرصة العمر، وهذا حلّه في تعريف مفاهيمك للفرصة وتحديد موازاناتك ابتداءً، فما هو فرصة عُرفًا قد لا يكون كذلك بالنسبة لك في سياقك فلا يلزمك تبنّيها، وأحيانًا يكون ترك الوظيفة فرصة تفكر ومراجعة – مثلًا - لمن وقع في فوضى الأولويات ومعنى الحياة.
كذلك من القوالب التي ظاهرها الخير وباطنها فهم مغلوط لإقناعك بالبقاء في وَسَط يسوؤك وترى أنك محتاج لمفارقته، قاعدة "أنت مختلف"، باعتبار أنّ اختلافك الحَسَن من وسائل مدافعة السوء في وسطك، وفي هذا المبدأ نظر، ذلك أنّ الاختلاف في حدّ ذاته ليس غاية بقدر ما هو أمر واقع، وحين يُراد الاختلاف فمن حيث هو وسيلة للإصلاح والتطوير، أما حين يصير هو في حدّ ذاته غاية لا يمكن تجاوزها لمرحلة أعلى، وقتها يبدأ التساؤل عن جدوى كونك مختلفًا في وَسَط تُخالِطُه مختارًا، اختلافًا غاية ما فيه استشعار النشاز عن النغمة السائدة، التي لا تملك أن تعدّل فيها أو تُقوِّم منها بأيّ قَدر على الحقيقة، ولا حتى يسعك الاتساق معها عن قرب أو بعد.
في حال الحاجة للاستمرار في الوظيفة، فإيجاد البديل عندها له مساران: الاكتشاف بالتوازي أو بالتوالي
إنّ الاختلاف وحده كسلاح للإصلاح والتقويم له حَدَّان، أحدهما سيعمل ببطء وروية، ونَعَم يُحدِث أثرًا على المدى يشبه أثر الحفر في الصخر بشوكة: بطيء صغير متدرج، والحَدّ الآخر موجّه لصاحبه نفسه، يقتات من روحه، ويتغذى من فكره، ويتّقد من شعلته، لذلك لا بد من نظر جاد في عواقب كلٍّ وثمنه؛ لأنك المتحمل الأول لكليهما.
وفي حال الحاجة للاستمرار في الوظيفة، فإيجاد البديل عندها له مساران: الاكتشاف بالتوازي أو بالتوالي، فالتوازي هو الانتقال التدريجي من الوظيفة لوظيفة أخرى، بما يعني أنك في أوقات فراغك من الأولى تعمل في التنقيب عن ثانية، أو التدرب لها أو صقل مهارات جديدة لتشتغل بها... إلخ، أما التوالي فيعني ترك الأولى تمامًا، ثم التفرغ للإعداد لثانية أو البحث عنها، وكلُّ مسار له موازاناته في حقّ صاحبه.