يكثر التعرض لمقولة "الحرام" عند مفترق الاختيار بين مسارات مهنية، فحرام أن تختار العمل في غير التخصص الدراسي لئلا تضيع سنوات من التعلم المدرسي والجامعي بدون تطبيقه في عمل مهني! وأول ما يجب إحقاقه في هذه المسألة وغيرها، أنه لا "حرام" إلا ما حرّمه الله تعالى.
ومن اللافت أن اللسان العامي يُكثر استعمال ألفاظ "عيب" و"لا يليق" وما أشبه عوضًا عن لفظة "الحرام" الصريحة تلك حتى في سياق الكلام عما يحرم شرعًا، ويسارع لها في الكلام عما هو شرعًا مباح بل وأحيانًا محمود! فلا بد من توخي الدقة في استعمال ألفاظ الأحكام في حال تَقرّر حكمها؛ كي لا يلبّس الناس على أنفسهم دينهم، ويضيّقوا على أنفاسهم دنياهم، بتحجير ما وسّع الله تعالى أو بحبحة ما حدّد!
بناء عليه، لا وجاهة لرأي يحرّم أو يجرّم ما أباح الله تعالى من حركة في الحياة وتنقّل بين مساراتها وأشغالها المشروعة، وكل ما يظهر "فرصة" من وجه هو جهد مبذول وعمر منفق في المقابل من وجه آخر، فلا وجود للفرصة التي كلها عطاء من جهتها واستقبال من جهة مُقتنصها!
قيمة كل خطوة يخطوها العبد فيه وكل عمل يشتغل به تكمن في عبودية ذلك الوقت وأثناء ذلك العمل، فلا عمل يضيع ولا جهد مهدر في ميزان العبد ما احتسب عمله وجهده
ثانيًا/ أعظم فرص العمر لكل إنسان عامة وللمسلم خاصة هو العمر نفسه، فقيمة كل خطوة يخطوها العبد فيه وكل عمل يشتغل به تكمن في عبودية ذلك الوقت وأثناء ذلك العمل، فلا عمل يضيع ولا جهد مهدر في ميزان العبد ما احتسب عمله وجهده.
ذلك أن العبودية المرادة منا في الحياة ليست على الحقيقة هدفًا أو أهدافًا معدودة يفترض بنا أن ننجزها، بل هي في جوهرها شخصية ينبغي أن "نكونها"، و"نهج" حياة ينبغي أن "نحياه" لا أن "ننتظره"، وما نكونه بناءٌ لا يَبزُغ في يوم وليلة، ولا يُبنى على المحطات "الكبرى" في الحياة فحسب، كالتخرج أو الوظيفة أو الزواج، بل هو يتشكّل شيئًا فشيئًا على طول رحلة فيها تلك المحطات وما بينها، والصغير منها مهمّ كالكبير، وأحيانًا أهم وأبقى، وكلّ خطوة نخطوها على طول الطريق قيمتها في عبوديّة وقتها، ما ابتغينا بها وجه الله تعالى.
فلها بالتالي معناها المستقلّ في نفسها، ونفعها الفريد في بنائك الكلي، سواء تعرّج بك الطريق لهدف لم تقصده، أو أدّى بك آخر المطاف لما ابتغيت أوّله، وسواء أُذِنَ لك بالوصول للمحطة التي كانت في بالك، أو لم يؤدّ مجموع خطواتك إليها، تظل كل خطوة في نفسها - بحُلوها ومُرّها - نافعة ما انتفعتَ بها، ويظل حسابك عليها قائمًا، سواء استحضرتَ مسؤوليتك عنها، أو عددتها "وقتًا ضائعًا"!
فإذا جئنا لسؤال: ما فائدة التخصص الذي تعلمته إن لم أعمل به؟
الذي يُضطر سائله غالبًا للرضى بالعمل في مجال التخصص ولو بشروط مالية ومعنوية متدنية، حفاظًا على "حرمة" الشهادة و"حرمانية" المجهود المبذول في تحصيلها، والجواب عن السؤال ببساطة: أنّ فائدة مسار التخصص كانت في الرحلة التي قَطعتَها والعلم الذي حصّلتَه أثناءها، فإن لم تكن حَصَّلتَ علمًا ولا خُضتَ رحلة، فقد فقدتَ الفائدة بالفعل وأهدرت عمرك ووقتك طوال مدة التخصص، وما عاد للتحسّر بعدها معنى!
عصر اليوم لم يعد يتطلب إلا إتقان مهارة من المهارات التي يمكن التكسب منها، وكل مهارة صار يمكن التكسب منها، بل وتعلّمها ابتداء عن طريق الإنترنت أو مراكز التدريب المتاحة
أما من تمكّن من العلم التخصصي فمنافعه لا تقتصر على العمل في مجاله المباشر، بل يمكن أن يكون مفتاحًا لآفاق أخرى، سواء اتصلت تلك الآفاق بفرصة كسب مالي أو عمل رسالي (كنشر العلم به على الإنترنت) أو ظلت ثقافة شخصية نافعة أثمرت في عقلية صاحبها ومهاراته المعرفية، وإن كان ثَمّة حُرمة في المسألة، فهي حقيقة لسنوات العمر لا لسنوات الدراسة، ولبناء المُتخرِّج لا لشهادة التخرج بذاتها، فمن كان مُضيِّعًا للأول ليس صادقًا في الحرص على الثاني، ثم على فرض ضياع ما سبق من سنوات الدراسة على جهل وغفلة، لا تضيّع ما هو آتٍ من سنوات العمر على علم وعناد!
ثم إذا تكلمنا عن الفرص من الناحية المالية، وهي عادة المقصود الأول من العمل، فعصر اليوم لم يعد يتطلب إلا إتقان مهارة من المهارات التي يمكن التكسب منها، وكل مهارة صار يمكن التكسب منها، بل وتعلّمها ابتداء عن طريق الإنترنت أو مراكز التدريب المتاحة، فأيهما أنفع على المدى، إهدار أضعاف السنوات التي سبقت في اللصوق بالتخصص لمجرد وفاء اللصوق وإن لم يكن يدرّ دخلًا معتبرًا أو يتطلب كدحًا في مقابل عائد هزيل، أم تغيير الوجهة لمجال من المجالات المربحة وتدارك ما فوّتته مهنة التخصص؟!