يقول ريتشارد دوكنز في كتابه (وهم الإله) الذي يعده البعض دستور الملحدين وكتابهم المقدس، لكن الملحدين أكثر عددًا مما كنا نتصور، وخصوصًا بين النخبة المثقفة، الحال كان كذلك أيضًا في القرن التاسع عشر عندما قال جون ستيوارت: "من المحتم أنها ستكون صدمة هائلة لو عرف العالم كم هي نسبة المشككين في الدين بين الحاصلين على أعلى الأوسمة لتميزهم اللامع في مجالات العلم والفكر"
أقول: إذا كان الملحدون أكثر عددًا مما نتصور، فإن المؤمنين ما يزالون الأغلبية الكاسحة في عالم اليوم، ويظل عدد الملحدين إلى عدد المؤمنين - حتى الآن - كنقطة في بحر.
الإيمان فطرة فطر الله الناس عليها، ولذلك فأكثر الناس مؤمنون بدافع فطريّ جبلّي، غير أنهم يختلفون في تفصيلات إيمانهم، وتحديد ذات إلههم وكنه شرائعهم.
أما الكلام عن الحاصلين على أعلى الأوسمة، وأن نسبة المشككين فيهم هي الأعلى نظرًا لنبوغهم، فإن الحقيقة الدامغة أن الغالبية الكاسحة من هؤلاء أيضًا هم من المؤمنين بوجود إله، ومن المذعنين له بدين معين وطريقة معينة.
أغلبية رجال العلم الكاسحة مؤمنة، بل وداعية إلى الإيمان، وإذا ما قسنا الأمر بالنسبة والتناسب، فإذا كان العلم بأغلبية رجاله المشتغلين به يؤيد الإيمان ويدعو إليه، فإن الإيمان يبقى - من الناحية العلمية - هو الحقيقة الدامغة التي أجمع عليها العلماء، والتي لا تنفيها القلة النادرة منهم الذين اتخذوا موقفًا آخر مناقضًا للإيمان وداعيًا إلى ضده
يقول جورج إيرل دافيز عالم الفيزياء الأمريكي الكبير، كما نُقِل عنه في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم): "وليس معنى ذلك أننا ننكر وجود الإلحاد والملحدين بين المشتغلين بدراسة العلوم، إلا أن الاعتقاد الشائع بأن الإلحاد منتشر بين رجال العلوم أكثر من انتشاره بين غيرهم، لا يقوم على صحته دليل، بل إنه يتعارض مع ما نلاحظه فعلًا من شيوع الإيمان بين جمهرة المشتغلين بالعلوم"
ويقول أيضًا أندرو كونواي إيفي عالم الفسيولوجيا الأمريكي الكبير، كما نقل عنه في نفس الكتاب السابق: "منذ سنوات عديدة كنت أجلس مع جماعة من رجال الأعمال، وفي أثناء الحديث الذي دار بيننا، قال أحد رجال الأعمال (سمعت أن معظم المشتغلين بالعلوم ملحدون) ثم نظر رجل الأعمال إليّ فأجبته قائلًا: إنني لا أعتقد أن هذا القول صحيح. بل إنني - على نقيض ذلك - وجدت في قراءتي ومناقشاتي أن معظم من اشتغلوا في ميدان العلوم من العباقرة لم يكونوا ملحدين، ولكن الناس أساءوا نقل أحاديثهم أو أساءوا فهمهم"
أقول: إذن تبقى أغلبية رجال العلم الكاسحة مؤمنة، بل وداعية إلى الإيمان، وإذا ما قسنا الأمر بالنسبة والتناسب، فإذا كان العلم بأغلبية رجاله المشتغلين به يؤيد الإيمان ويدعو إليه، فإن الإيمان يبقى - من الناحية العلمية - هو الحقيقة الدامغة التي أجمع عليها العلماء، والتي لا تنفيها القلة النادرة منهم الذين اتخذوا موقفًا آخر مناقضًا للإيمان وداعيًا إلى ضده.
الشذوذ لا ينفي القاعدة، ذلك إذا كان الشذوذ في القاعدة نفسها، فما بالنا بالشذوذ الناتج من مجرد النظر إلى القاعدة، وعدم استطاعة رؤيتها كما هي.
قاعدة الإيمان قاعدة ثابتة وعامة، ولا شذوذ فيها ولا عندها ولا منها، والإلحاد هو الشذوذ الناتج عن قِصر نظرِ الملحدين لا عن شيء في القاعدة التي يشذون عنها.
ثم يعود دوكنز في كتابه للادعاء بأن العلماء هم أكثر الناس إلحادًا، إذ يقول بعد الحديث عن بعض الدراسات التي تؤكد ما يذهب إليه: "وهذا تمامًا ما أتوقعه، من أن نسبة التدين بين العلماء أقل منها بالنسبة للعامة، والعلماء الأكثر تميزًا هم الأقل تدينًا على الإطلاق"
أقول: ونحن نؤكد على أن هذا ادعاء لا أساس له، وقد نقلت آنفا كلامًا لعلماء ينفون تمامًا هذه الفرية، ويؤكدون على عكس ذلك، من أن العلماء هم أكثر الناس إيمانًا بوجود الخالق.
الأغلبية الكاسحة من علماء الطبيعة هم كالغالبية الكاسحة من الفلاسفة العقلانيين، يؤمنون بوجود قوة خلقت وأبدعت، غير أنهم يضلون بعد ذلك في وصف هذه القوة، لاعتمادهم الكلي على عقولهم في هذا الشأن، ولجهالاتهم وشهواتهم التي تسيطر على عقولهم
وهنا نريد أن نؤكد على أكثر من نقطة:
- وجود الله؛ لما يرونه في خلقه من تصميم وإبداع، يستحيل أن يكون قد وُجد صدفة كما يقول البعض، وهذا البعض الذي يقول بهذه الفكرة التافهة هو من القلة والندرة فلا يُنظر له كما لا يُنظر لفكرته.
- الأغلبية الكاسحة من علماء الطبيعة هم كالغالبية الكاسحة من الفلاسفة العقلانيين، يؤمنون بوجود قوة خلقت وأبدعت، غير أنهم يضلون بعد ذلك في وصف هذه القوة، لاعتمادهم الكلي على عقولهم في هذا الشأن، ولجهالاتهم وشهواتهم التي تسيطر على عقولهم.
والخلاصة: أنهم مؤمنون في أغلبهم بوجود القوة الخالقة، ثم يختلفون في تحديد كنهها.
وإذا ما افترضنا أن العلماء هم أقل الناس إيمانًا - وهو افتراض باطل كما ذكرنا - فإن ذلك لا يعيب قضية الإيمان ولا ينفيها، لكنه يشير إلى أن الإيمان كفكرة تحتاج للعقل وللوحي معًا، تحتاج لعقل يبحث ويفكر، ثم يهتدي بوحي الله الذي يوفر عليه كثيرًا من الوقت والجهد، ويزيل عنه كثيرًا من الإشكالات التي ربما تطيح ببحثه وتفكيره، وترمي به في خضم الحيرة والشك اللذان لا ينتهيان.
كما أن الحياة الدنيا بنيت على الصراع الخالد بين الإنسان والشيطان، فإن حياة الإنسان بنيت كذلك على الصراع الخالد بين عقل يريد أن يجعل من نفسه إلهًا يُعبد من دون الله، ليحكم على كل شيء حكمًا كليًا مطلقًا، وبين فطرة تدعو الإنسان للاهتداء بهَدي الله، والاستعانة بوحيه لينير للعقل طريقه ويزيل عنه لبسه وجهله
الإيمان بالله يحتاج للعقل، ليُقِرَّ بدايةً أنه لا بد من وجود قوة خالقة للكون، ثم ليصغي هذا العقل بعد ذلك للوحي، الذي يناديه الله به، ويُحدّثه فيه عنه وعن ذاته وصفاته وقصده ومراده.
وإذا افترضنا أن العلماء هم أبعد الناس عن الإيمان؛ فذلك لأنهم تركوا العنان لعقولهم لتحسم لهم القضية بكليتها، بدون الاهتداء بوحي الله، فصنعوا من عقولهم آلهة عبدوها من دون الله، فأضلتهم بعدما أشارت لهم أولًا بحتمية وجود قوة خالقة.
وكما أن الحياة الدنيا بنيت على الصراع الخالد بين الإنسان والشيطان، فإن حياة الإنسان بنيت كذلك على الصراع الخالد بين عقل يريد أن يجعل من نفسه إلهًا يُعبد من دون الله، ليحكم على كل شيء حكمًا كليًا مطلقًا، وبين فطرة تدعو الإنسان للاهتداء بهَدي الله، والاستعانة بوحيه لينير للعقل طريقه ويزيل عنه لبسه وجهله.
الإيمان بالله هو حال أغلبية الناس وأغلبية العلماء في حياتنا المعاصرة سواء بسواء، وضعف التقيد بتوجيهات الله وتعليماته في شرائعه هو حال أغلبية الناس وأغلبية العلماء في حياتنا المعاصرة سواء بسواء
والتدين له في الحقيقة معنيان:
التدين أولًا/ بمعنى اليقين بدين ما، والإيمان بإلهه ورسوله وكتابه، أو بفلسفته وطريقته إن كان دينًا بشريًا وضعيًا.
والمعنى الثاني للتدين/ هو التزام الإنسان المؤمن بتعاليم دينه وتوجيهاته وقوانينه.
فإذا كان دوكنز يريد أن يؤكد على أن العلماء هم أقل الناس تدينًا من وجهة نظر المبدأ، أي من زاوية الإيمان بالدين ابتداء، فهو واهم مُدعٍ كما أكدنا، وكثير من علماء الطبيعة أمثاله يردون عليه، وينفون ما يقطع به.
وإذا كان يقصد بأن العلماء هم أقل الناس تدينًا من زاوية الالتزام بتوجيهات دينهم وتعاليمه، فالعلماء في هذه كبقية الناس، منهم المؤمنون الملتزمون، ومنهم المؤمنون المقصرون، ومنهم الذين لا يتجاوز الإيمان عندهم مجرد الاعتقاد العقلي والطمأنينة القلبية.
وفي هذا الزمن المعاصر كثيرون جدًا - سواء من العلماء أو من غيرهم - من لا يتجاوز الإيمان عندهم، مجرد الإيمان العقلي والطمأنينة القلبية؛ وذلك لغلبة الشهوات والطغيان المادي الذي بات يلف حياتنا المعاصرة من كل جوانبها.
الإيمان بالله هو حال أغلبية الناس وأغلبية العلماء في حياتنا المعاصرة سواء بسواء، وضعف التقيد بتوجيهات الله وتعليماته في شرائعه هو حال أغلبية الناس وأغلبية العلماء في حياتنا المعاصرة سواء بسواء.
ويقول دوكنز في كتابه: "إحدى أشهر العبارات التي نقلت عن أينشتاين" علم بدون دين هو علم أعرج، ودين بدون علم هو دين أعمى"
لكنه قال أيضًا: "ما قرأتموه عن موضوع تديني هو كذب بالطبع، كذبة تكررت بشكل مدروس، أنا لا أؤمن بالإله الشخصي، ولم أنكر ذلك أبدًا، بل على العكس، فقد عبرت عن الموضوع بشكل واضح، لو كان في داخلي شيء من الممكن دعوته بالدين فهو الإعجاب غير المحدود بهذا الكون المحكم بقدر الكشف عنه بواسطة العلم"
أهل العلم والفلسفة، هم جميعًا يُجمعون على وجود الله، كقوة كبيرة ومسيطرة ومسيرة للكون، لكنهم يضلون بعد ذلك في تحديد ذاته، وينكرون أن تكون له غاية من إيجاد الخلق، تحللًا منهم من أي قيود دينية، ورغبة في الحرية التامة المطلقة
ثم يقول دوكنز: "هل يناقض أينشتاين نفسه، بأن يعطينا كلمات نستطيع بها دعم الطرفين؟ بالطبع لا، آينشتاين يعني بكلمة الدين شيئًا مختلفًا تمامًا عن المعنى المتعارف عليه، سأسهب في توضيح الفرق بين الدين الغيبي والدين الآينشتيني"
ثم يقول دوكنز: "آينشتاين استعمل كلمة الله بشكل مجازي ورمزي، وقد عبر كارل ساغان عن ذلك بطريقة جيدة عندما قال: لو عنينا بكلمة الإله مجموعة القوانين التي تحكم الكون، فهذا الإله موجود بالتأكيد، ولكن مثل هذا الإله لن يشبع رغباتنا العاطفية؛ لأنه من غير المنطقي أن تصلي وتطلب غفران الخطايا من قانون الجاذبية"
أقول: يتحدث دوكنز هنا عن أينشتاين باعتباره من أهم العقول العلمية في القرن العشرين، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، ويريد من حديثه عنه أن يؤكد على رفض آينشتاين لفكرة وجود الله، برغم أن البعض يتحدثون عن إيمانه، اعتمادًا على بعض النقول عنه.
ومن خلال مقابلة النقول ببعضها، ومن خلال كلام آينشتاين المباشر عن المسألة، فإن الظاهر أنه كان ملحدًا، ولم يكن مؤمنًا إيمانًا حقيقيًا بوجود الله.
آينشتاين يشبه غيره من الكثيرين من أهل العلم والفلسفة، فهم جميعًا يُجمعون على وجود الله، كقوة كبيرة ومسيطرة ومسيرة للكون، لكنهم يضلون بعد ذلك في تحديد ذاته، وينكرون أن تكون له غاية من إيجاد الخلق، تحللًا منهم من أي قيود دينية، ورغبة في الحرية التامة المطلقة.
الإلحاد ليس موقفًا فكريًا مجردًا عند جميع من يتبنونه، ولكنه موقف فكري ملطخ بالأغراض والشهوات عند الكثيرين منهم.
هذه هي الحقيقة التي يغفلها الكثيرون، أغلب الفلاسفة والعلماء يؤمنون بوجود قوة خارجة تحكم حركة الكون، غير أن بعضهم يذهب للقول بأن هذه القوة ما هي إلا القوانين الطبيعية التي ينتظم الكون بها، وتترتب أجزاؤه بفعلها، وتستمر في حركتها المنتظمة في ظل سيطرتها وتوجيهها.
فإذا سلمنا بذلك، فسيبقى السؤال الطبيعي الساذج: من الذي أوجد هذه القوانين، ومن الذي رتبها وشبّكها بهذه الطريق العظيمة المدهشة؟!
وهؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين يُرجعون الأمر برمته إلى مجرد القوانين الطبيعية التي تحكم الكون، لا يخفى أبدًا غرضهم، أو غرض الكثيرين منهم، في نفي أي وجود لإله له غاية ومقصد من إيجاده للمخلوقات؛ كي لا تُنتقص حريتهم بعد ذلك بقيود الحلال والحرام.
الدين في حقيقته قيود على قيود، تضيّق حرية الإنسان في حركته، نعم، فهو يُضيّق هذه الحرية لمصلحة الجنس البشري في الدنيا، ولمصلحته في الآخره، لكنها في النهاية تضيّق حقًا من حرية الإنسان، وخصوصًا ذلك الذي يريد أن يعيش كما تعيش البهائم، بلا قيود مطلقًا، ولا غاية أبدًا.
لا يجب أن نغفل أبدا الجانب الشهواني والغرضي لأولئك الفلاسفة والعلماء الذين ينكرون وجود الله، أو يتحايلون على وجوده بالحديث عن أنه مجرد مجموعة من القوانين التي تتحكم في الكون.
لا يجب أن ننكر الجانب الشهواني والغرضي الذي دفعهم لما يقولونه، أو دفع الكثيرين منهم.
الإلحاد ليس موقفًا فكريًا مجردًا عند جميع من يتبنونه، ولكنه موقف فكري ملطخ بالأغراض والشهوات عند الكثيرين منهم.