سؤال يتردد كثيرًا على ألسنة المُبتلين وذويهم ومٌحبيهم وكلما زاد الكيل وفاض كلما تكرر السؤال، وهذا ليس بمستغرب ولا مستحدث ولا عجيب بل هو ديدن أهل الحق في كل زمان، وما طلب الصحابي الجليل خباب بن الأرت بخفي على أحد، وهو القائل للنبي ﷺ: "ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟"
وقبل الخوض في تفاصيل الموضوع أود أن أحكي قصة "اسكتش فني" مضمون قصته أنه كان هناك رجل بخيل قد تعرض ابنه لحادث واحتاج لأكياس من الدم، ذهب الرجل البخيل إلى بنك الدم ليسأل عن سعر "كيس الدم" فقيل له هنا دم أمريكي وسعره كذا، ودم ألماني وسعره كذا، ودم فرنسي وسعره كذا وفي كل مرة يسأل البخيل عن سعر أقل إلى أن قيل له يوجد "دم إسلامي" وهذا هو الأكثر والأقل سعرًا، هنا تساءل الرجل: "ليه دم المسلم رخيص؟" وكرَّرها عدة مرات وانتهى المشهد على ذلك، ليترك لنا الإجابة التي فيها الخلاص.
إن هذا "الاسكتش الفني" قد فجَّر سؤالًا تحتاج الإجابة عنه إلى ندوات ومحاضرات ومؤلفات، إلا أننا سنعيد صيغة السؤال ليتناسب مع عنوان موضوعنا فنقول: "لماذا يُبتلى المؤمن ويشتد عليه البلاء؟"!
الله تعالى يُسلط الظالم على نفسه قبل أن يُسلطه على عباده الصالحين، يُسلطه على نفسه حتى يستنفد كل ما لديه من خير فيكون كمن يلف الحبل حول عنقه، حتى إذا أخذه الله تعالى لا يكون له شفعاء ولا مُترحمون!
وللإجابة عن هذا السؤال سنبدأ بعدة مقتطفات تمهد للإجابة وتسهل فهمها:
أولًا/ قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1،2]
ثانيًا/ عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: "شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسد بُردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم، يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" (صحيح البخاري)
ثالثًا/ قال الإمام ابن القيم في كتاب الفوائد: "يا مخنَّثَ العزم أين أنت، والطريقُ طريقٌ تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب، وزاد على المقداد بكاءُ داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد ﷺ"
رابعًا/ سُئل الإمام أحمد بن حنبل: ألم تصدك المحن عن الطريق!؟ قال: والله لولا المحن لشككت في الطريق"
أخي المبتلى..
ثق أن الله تعالى يُسلط الظالم على نفسه قبل أن يُسلطه على عباده الصالحين، يُسلطه على نفسه حتى يستنفد كل ما لديه من خير - إن وجد - فيكون كمن يلف الحبل حول عنقه، حتى إذا أخذه الله تعالى لا يكون له شفعاء ولا مُترحمون!
وثق أن الله تعالى يترك المظلومين حتى يأخذ أهل الحق بكل الأسباب، وحتى يستنفدوا كل ما بداخلهم من طاقة وجهد، وحتى يُوقنوا أنه لا رافع للبلوى إلا الله و "لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ"... حينها يتنزل نصر الله عليهم وتأييده فيكون نصرًا عزيزًا يبذلون من أجل صيانته المُهج والمُقل والأرواح.
اصبر فكم من سفينة خرقها الله لك لينجيك من مصيبة أكبر، يبتلينا الله تعالى بالصغيرة لينجينا من الكبيرة وهو سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين، فاللهم صبرًا علي ما لم نحط به خُبرًا.
أخي المبتلى..
إن من ينظر لسنة الله تعالى في نزول رحمته يجد أن:
• الرحمة قد نزلت على نبي الله إبراهيم - عليه السلام - وهو في النار!
• ونزلت الرحمة على نبي الله نوح - عليه السلام - بعد أن أخذ بكل الأسباب قرابة ألف عام!
• ونزلت الرحمة على نبي الله يونس - عليه السلام - وهو في بطن الحوت بعد أن توجه لله تعالى بدعاء: "لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" الذي يشتمل على التوحيد والتنزيه والندم والافتقار والتوبة.
• ونزلت الرحمة على نبي الله أيوب - عليه السلام - بعد أن أنهكه المرض قرابة عشرين عامًا وانصرف كل الناس عنه إلا زوجته!
لخص الإمام "ابن كثير" في "تفسيره" قصة نبي الله أيوب - عليه السلام - فقال: "يذكر تعالى عبده ورسوله أيوب - عليه السلام - وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليمًا سوى قلبه ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده؛ لإيمانها بالله ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوًا من ثماني عشرة سنة"
وفي "البداية والنهاية" قال: "وقال حميد: مكث في بلواه ثماني عشرة سنة. وقال السدي: تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم والعصب، فكانت امرأته تأتيه بالرماد تفرشه تحته، فلما طال عليها قالت: يا أيوب لو دعوت ربك لفرَّج عنك، فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحًا، فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة، فجزعت من هذا الكلام، وكانت تخدم الناس بالأجر وتطعم أيوب عليه السلام"
• ونزلت الرحمة على نبي الله موسى - عليه السلام - وهو مطارد لا يعلم ماذا يفعل ولا ماذا سيحدث له!
• ونزلت الرحمة على نبينا محمد ﷺ وهو مطارد من كفار قريش وقد رصدوا مائة ناقة لمن يأتي به حيًا أو ميتًا!
• ونزلت الرحمة على المسلمين في غزوة الخندق بعد أن حفروا خندقًا طوله 5544 مترًا ومتوسط عرضه أربعة أمتار ونصف المتر ومتوسط عمقه ثلاثة أمتار وربع المتر.
بشريات على الطريق
1. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" (صحيح الترمذي)
2. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" (صحيح البخاري)
3. وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض" (سنن الترمذي)
4. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "إن عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رَضِيَ فله الرِضا، ومن سَخِطَ فله السُّخْطُ" (رواه الترمذي وابن ماجه)
5. وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاءً، فيقول الله - عز وجل - لمن يشاء من ملائكته ائتوهم فحيوهم. فتقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك، وخيرتك من خلقك أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عبادًا يعبدونني ولا يشركون بي شيئًا، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاءً، قال فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" (أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني)
شتان الفرق بين من تكون الذنوب والمعاصي أصلًا في حياته ويغوص في الفواحش حتى أذنيه وبين من تكون الذنوب والمعاصي في حياته أمرًا عارضًا يفيق بعدها ويندم ويتوب ويستغفر
من كل ما سبق نقول لكل مبتلى:
- اصبر فإن الله تعالى لا يبتلينا ليعذبنا ولكن يبتلينا ليهذبنا، ولولا البلاء لكان يوسف عليه السلام مُدللًا في حضن أبيه.. ولكنه مع البلاء صار عزيز مصر..!
- اصبر فكم من سفينة خرقها الله لك لينجيك من مصيبة أكبر، يبتلينا الله تعالى بالصغيرة لينجينا من الكبيرة وهو سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين، فاللهم صبرًا علي ما لم نحط به خُبرًا.
ونقول: سئل الإمام أحمد: "متى يجد العبد طعم الراحة؟"، قال: "عند أول قدم يضعها في الجنة" إن المطلوب من العبد والحال كذلك هو أن يسلك طريق الحق ويثبت عليه ولو لم يصل لنهايته فيكفيه صدقه وإخلاصه وثباته!
ونقول: "إِن تَكُونُوا۟ تَأۡلَمُونَ" من "القتل والإصابات والاعتقالات، ومصادرة الأموال، ونهب الممتلكات، والفصل من الدراسة ومن الوظائف، والتهجير والمطاردات... إلخ"، فَإِنَّهُمۡ یَأۡلَمُونَ من "الخيانات الزوجية، والأمراض النفسية والعصبية، والفضائح المخزية، والعقوق، والإدمان والجرائم، وأكل المال الحرام، وزائرات الليل وبائعات الهوى، وتبادل الزوجات، وزنى المحارم، والشذوذ... إلخ"
أخبرني بالله عليك: أي الفريقين أقل ألمًا، وأي الفريقين أحق بالأمن، وأي الفريقين يحق له أن يعيش عزيزًا مرفوع الرأس!
قد يقول قائل: "إنكم بذلك تدَّعُون العصمة"، ولهذا وأمثاله أقول: العصمة لله وحده، ولكن شتان الفرق بين من تكون الذنوب والمعاصي أصلًا في حياته ويغوص في الفواحش حتى أذنيه وبين من تكون الذنوب والمعاصي في حياته أمرًا عارضًا يفيق بعدها ويندم ويتوب ويستغفر.
لسنا أعز على الله تعالى من الأنبياء ولا أعز من الصحابة والتابعين الذين لم يكن يشغلهم الوصول إلى نهاية الطريق بقدر انشغالهم بأداء حق الطريق والالتزام بعوامل الثبات على الطريق
وأخيرًا نقول لكل مبتلى:
إننا لسنا أعز على الله تعالى من الأنبياء - عليهم السلام - ولا أعز من الصحابة والتابعين - رضوان الله عليهم أجمعين - الذين تربوا في مدرسة النبوة والذين لم يكن يشغلهم الوصول إلى نهاية الطريق بقدر انشغالهم بأداء حق الطريق والالتزام بعوامل الثبات على الطريق فانتشروا في الأمصار والثغور في كل مكان لكي يظفروا بالأجر ولكي يكونوا قدوة لمن بعدهم إلى يوم أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
انتشروا..
• ليموت أنس بن مالك رضي الله عنه بالبصرة.
• ويموت البراء بن عازب وأبو أمامة سهل بن حنيف - رضي الله عنهما - بالكوفة.
• ويموت عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - بالقدس في فلسطين.
• ويموت أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - بالأردن.
• ويموت شرحبيل بن حسنة ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما - في طاعون عمواس بالشام.
• ويموت بلال بن رباح وأبو الدرداء الأنصاري - رضي الله عنهما - بدمشق.
• ويموت ثوبان بن بجدد - رضي الله عنه - (مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بحمص بالشام.
• ويموت جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - في بلدة "قرقيسيا" على نهر الفرات شرق سوريا.
• ويموت سلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - بالمدائن.
• ويموت أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - في القسطنطينية ويدفن باسطنبول.
• ويموت بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - بخرسان.
• ويبني عمرو بن العاص - رضي الله عنه - مدينة الفسطاط في مصر ويموت أيضًا بمصر.
• ويؤسس عقبة بن نافع - رضي الله عنه - مدينة القيروان ويموت في بلاد المغرب.
• ويكفينا أن نعرف أنه لم يُدفن في مكة والمدينة من المائة ألف صحابي الذين شهدوا حجة الوداع مع النبي ﷺ إلا بضع آلاف فقط والباقي قد دفنوا في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم عجِّل لأوليائك بالفرج والنصر والتأييد والتمكين،
اللهم ارحم ضعفنا واجبر كسرنا وتولّ أمرنا وأهلك عدوك وعدونا!
اللهم إنا نسألك طاعة في تمكين ترغم به أنف عدوك وعدونا وتذهب به غيظ قلوبنا وتمكِّن به لديننا.