الثائر والمعارض بين تشابه الجلباب واختلاف اللباب (2-2)

الرئيسية » بصائر الفكر » الثائر والمعارض بين تشابه الجلباب واختلاف اللباب (2-2)
الثائر والمعارض بين تشابه الجلباب واختلاف اللباب - محمد عبد الرحمن صادق 2

تحدثنا - بفضل الله تعالى - في الجزء الأول من هذا الموضوع عن مقدمة تبيِّن الفرق بين المعارض والثائر، ثم تحدثنا عن:

أولًا/ الثائر والمعارض بين تشابه الجلباب واختلاف اللباب

ثانيًا/ قراءة في ثورات الربيع العربي

وفي هذا الجزء سنتحدث بإذن الله تعالى عن:

ثالثًا/ العدو الحقيقي للأنظمة المستبدة

إن العدو الحقيقي للأنظمة المستبدة هو وعي الشعوب، لذلك تحرص هذه الأنظمة على تغييب الوعي بل واضطهاد كل من يعمل على غرس الوعي بين المواطنين لكي تمارس هذه الأنظمة وصايتها على الشعوب ولتضمن بقاء الشعوب في "بيت الطاعة" خانعة ذليلة ترضى بالدون وتشكر النظام إذا ألقى إليها فتات الفتات.

إن سبيل الأنظمة المستبدة لضمان تغييب وعي الشعوب هو تبني نظام تعليميّ قاصر قائمٍ على الحفظ والاسترجاع وخالٍ من التفكير والإبداع، بعيدٍ كل البعد عن البحث والاستقصاء والتحليل، فتجد المتعلمين أسرى بين سطور ومُغيبين داخل نصوص يتعاملون معها على أنها تابوهات وقوالب جامدة، وغير مسموح لهم تجاوزها ولا تخطيها.

تغييب الوعي يهدف إلى الاستئثار بطاقات وإمكانات وجهود الأفراد والشعوب وتوجيهها لتحقيق مآرب خاصة لا تعود بالنفع على أصحابها

ومن بين وسائل النظم المستبدة لتغييب وعي الشعوب تشويه الحقائق التاريخية التي تستنهض هِمم الشعوب وجعلهم يتعاملون مع المعلومات المشوهة على أنها حقائق ومُسلمات؛ ليستنزفوا بذلك كرامة الشعوب وليقتلوا بداخلهم النخوة وأيّة محاولةٍ للخروج من ذل العبودية، وكل ما سبق يحصل من منظور الفرعون الأكبر حين قال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "واستخفاف الطغاة للجماهير أمرٌ لا غرابة فيه؛ فهم يعزِلون الجماهير أولًا عن كل سُبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها ويُلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المُصطنعة، ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مُطمئنين، ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يُمسِّكون بحبل الله، ولا يزِنون بميزان الإيمان، فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح"

إنَّ تغييب الوعي يهدف إلى الاستئثار بطاقات وإمكانات وجهود الأفراد والشعوب وتوجيهها لتحقيق مآرب خاصة لا تعود بالنفع على أصحابها، كما يهدف إلى تفكيك العلاقات بين الأفراد والهيئات والشعوب، حتى تصير كالجزر المنعزلة وإن شئت فقل كالفرق المتناحرة، هنا تسلس قيادتها، ولا تشكل خطرًا على النظم المستبدة القائمة بتغييب الوعي.

إن من ينشد الإصلاح ويعمل على التغيير عليه أن يدرك أننا بحاجة إلى طليعة واعية ونخبة مُخلصة في كل مجال لبناء الوعي الشامل المتكامل، هذه الطليعة الواعية والنخبة المُخلصة تقدِّم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وتدرك أن مهمتها هي قيادة المجتمع كله لما يحقق الخير والنفع للجميع في الجانب المنوط بها.

إن دور الطليعة الواعية المخلصة هو أن تفضح كل الحيل والألاعيب التي تهدف إلى تغييب الوعي واغتصاب العقول ، كما أن من صميم دور الطليعة الواعية المخلصة أن يكون لها خطتها المستقلة التي تهدف إلى الرقي بوعي المجتمع وانتشاله من مستنقع التغييب الآسن؛ كي لا تكون تصرفات الطليعة الواعية مجرد ردات أفعال لممارسات الأنظمة المستبدة، وكي لا تستخدمها الأنظمة لتحقيق بعض أهدافها وهي لا تدري.

وحين يتحقق ذلك يمكنا القول إن الجماهير الواعية لا تسمح لنفسها أن تكون الاختيار الأخير للنظام الحاكم، ولا أن تكون مُهمشة كالهمزة، ولا منسية كعلامات الترقيم، ولا تبنى للمجهول إلا تقديرًا وتفردًا، وتقبل الموت ولا تقبل أن تكون نكرة.

الثائر المسلم يثور من أجل هوية ضاعت، وأرض سُلبت، وخيرات نهبت، وأعراض استبيحت، وكرامة أهدرت، وشهداء أريقت دماؤهم وقيم ومبادئ نبيلة أرادوا ترسيخها في المجتمع وتوريثها للأجيال

رابعًا/ قراءة في ذهن الثائر المسلم

إن الثائر المسلم قد فرض عليه الواقع واجبًا لا يُمكن لحر أبي أن يتنصل منه؛ فهو يثور من أجل هوية ضاعت، وأرض سُلبت، وخيرات نهبت، وأعراض استبيحت، وكرامة أهدرت، وشهداء أريقت دماؤهم لا لذنب اقترفوه ولا لجريرة ارتكبوها ولكن لتطلعات وآمال سامية، وقيم ومبادئ نبيلة أرادوا ترسيخها في المجتمع وتوريثها للأجيال، من أجل ذلك كله يهب الثائر المسلم ولا يهدأ مهما كلفه الأمر من تضحيات.

يقول العلامة الراحل يوسف القرضاوي رحمه الله:

تالله ما الطغيان يهزم دعوةً :: يومًا وفي التاريخ برُّ يميني

ضع في يديَّ القيد ألهب أضلعي :: بالسوط ضع عنقي على السكّين

لن تستطيع حصار فكري ساعةً :: أو نزع إيماني ونور يقيني

فالنور في قلبي وقلبي في يدي :: ربّي.. وربّي ناصري ومُعيني

سأعيش مُعتصمًا بحبل عقيدتي :: وأموت مُبتسمًا ليحيا ديني

ويقول الشاعر العراقي عدنان عبد الله رحمه الله:

أنذرتكم يا ذيول الغرب فازدجروا :: هذا هو الشعب يومًا سوف ينفجرُ

هذا هو الحق لا يسطيع مغتصَبا :: فأغلقوا دوركم بالوحل واحتجروا

فارقونا فإن الصبح منفلقٌ :: سيفضح الصبح كفا كلها وَضَرُ

وإنها ثورة كالفجر صارخة :: ستمحق الظلم رغما ثم تنتشرُ

وضد كل مُعادي الشعب طاغية :: سأشهر السيف حتى ينزل الظفرُ

إن يسجنوني أبشر تلك أمنيتي :: أو يقتلوني فذا والله أنتظرُ

هذي أساور كسرى سوف نلبسها :: أبشر سراقةَ فالدنيا ستزدهرُ

وإن شعبا إلى العلياء منطلقًا :: لن يقدرَ الجنُّ يثنيه ولا البشرُ

الثائر المسلم إنما يُضحِّي لاقتلاع جذور الطغاة قيامًا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر الذي لم يستثن الله تعالى منه أحدًا، كل حسب جهده واستطاعته

من هنا يحق لنا أن نقول إن الثائر المسلم لا يهاب مواجهة الظالم المستبد ليقينه أنه يُؤجر أجرًا مُضاعفًا، وذلك لعدة أسباب:

1. لأن الثائر المسلم قد علم أن مقاومة الظلم أمر فطري وواجب إنساني؛ فالظلم تأباه النفس السَّوية مهما كانت هويتها ومهما كانت عقيدتها، وصاحب النفس السَّوية يقبل أن يُراق دمه ولا يقبل أن تستباح كرامته.

2. لأنه قاوم الظلم وصبر على تبعات هذه المقاومة وهو يُوقن أنه مأجور وأن سِيرته ستكون أفضل وأنصع وأطول من سِيرة ظالمه.

3. لأنه لم يرضخ للواقع ولم يستسلم بالرغم من قلة الأعوان والأنصار الذين يعينونه على مُقاومة الظلم، فاختار طريق "قول الحق عند سلطان جائر"

4. لأنه قدم القدوة من نفسه في وقت جبُن فيه من جبُن وداهن فيه من داهن.

5. إن الثائر المسلم إنما يُضحِّي لاقتلاع جذور الطغاة مَعذرة إلى الله تعالى الذي سيحاسبنا فرادى، حتى ولو لم يصل الثائر لمُبتغاه قبل موته.

6. إن الثائر المسلم إنما يُضحِّي لاقتلاع جذور الطغاة قيامًا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر الذي لم يستثن الله تعالى منه أحدًا، كل حسب جهده واستطاعته.

7. إن الثائر المسلم إنما يُضحِّي حتى لا يورّث الاستسلام والخنوع للأجيال اللاحقة، وليعلم الأبناء أن الآباء والأجداد لم يدَّخروا جُهدًا في مُقارعة الظلم ودحره.

8. إن الثائر إنما يُضحِّي كي لا يستمريء الجميع الظلم والطغيان فتعم الفتنة ويهلك الجميع.

عن عتبة بن غزوان - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "إنَّ وراءَكم أيَّامَ الصَّبرِ المُتمسِّكُ فيهنَّ يومَئذٍ بمِثْلِ ما أنتم عليه له كأجرِ خَمسينَ منكم قالوا يا نَبيَّ اللهِ أوَمِنْهم؟ قال لا بل منكم قالوا يا نَبيَّ اللهِ أوَمِنْهم؟ قال لا بل منكم ثلاثَ مرَّاتٍ أو أربع" (أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط)

من ينظر لحياة النبي ﷺ يدرك أنها كانت مليئة بالجوانب التربوية إلا أنها لم تخل يومًا من ممارسة السياسة التي تمثلت في مجملها في مقابلة الوفود، وإبرام التحالفات والعهود، وإرسال الرسائل للملوك لتعريفهم بالإسلام ودعوتهم إليه

خامسًا/ هل منهج الأنبياء تربوي أم ثوري؟

إن من ينظر لمنهج الأنبياء في التغيير يجد أنهم قد ربوا نفوس وضمائر أتباعهم من المؤمنين تربية تأبى الظلم مهما كانت حدته، وتستعصي على الرضوخ لظالم مهما كانت قوته ومهما بلغ جبروته، من هنا نفهم أن ثورة بلا تربية كمن يحرث في الماء لا يجني إلا التعب والنصب، وكمن ينفخ في الرماد لا يضر إلا نفسه، وأن تربية بلا ثورة لا ينتج عنها سوى صارخ في واد لا يُسمِع إلا نفسه، ولا ينتج عنها سوى تابوهات طاهرة في نفسها ولكنها عاجزة على تطهير غيرها، ولا ينتج عنها سوى أبدان مُستباحة، ورقاب خاضعة ذليلة، وظهور ذلولة لكل راكب.

لو كان منهج الأنبياء تربويًا فقط لاكتفى النبي ﷺ بدار الأرقم بن أبي الأرقم وما خرج منها، وإن تربية المسلمين الأوائل على مبادئ القرآن المكي في دار الأرقم نتج عنها جيل استطاع أن يصبر على إيذاء المشركين، واستطاع أن يقوِّض امبراطوريات الفرس والروم وغيرهما.

وإن من ينظر لحياة النبي ﷺ يدرك أنها كانت مليئة بالجوانب التربوية إلا أنها لم تخل يومًا من ممارسة السياسة التي تمثلت في مجملها في مقابلة الوفود، وإبرام التحالفات والعهود، وإرسال الرسائل للملوك لتعريفهم بالإسلام ودعوتهم إليه، وكل ذلك كان تمهيدًا لثورات هادرة هزمت أشرس الجيوش واقتلعت أعتى الامبراطوريات، وبدون ذلك لوُئِد الإسلام في مهده.

إن كل ما سبق هو أبلغ ردٍّ على من يطالبون بالاكتفاء بتربية الأفراد والابتعاد بالدعوة عن دهاليز السياسة ومعتركاتها خوفًا على الأفراد؛ فالتربية والسياسة كجناحين كجناحي الطائر لا يغنى أحدهما عن الآخر، وإن من يربي أفرادًا بدون اختبار صدق تربيتهم كالبخيل الذي يكنز المال ويبخل أن ينفق منه خوفًا من الإفلاس.

أخيرًا أقول:

إن أول ثورة في الإسلام حدثت بعد إسلام أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - عندما خرج على رأس مجموعة من المسلمين وحمزة - رضي الله عنه - على رأس مجموعة آخرى وجهروا بإسلامهم وطافوا حول الكعبة مُتحدِّين بذلك مشركي قريش، ومن يومها سُمِّي أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - ب (الفاروق)

وأقول:

إن دعوة الأنبياء عليهم السلام ما كانت إلا ثورة على مجتمعات جاهلة تعج بصناديد وأتباع لهم عقائد وثنية وعادات وتقاليد بالية ما أنزل الله بها من سلطان!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …