بداية لا بد أن نتفق على أنه ما من سلطة إلا ولها مُعارضون، وإن كانت ناجحة ولها إنجازات على أرض الواقع تشهد بذلك!
والمعارضة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول/ يُعارض من أجل تحقيق بعض المنافع من خلال الاقتراب من كُرسي الحكم أو الاستحواذ عليه، وهذا النوع تفتر حدة معارضته كلما حقق جزءًا من المنافع التي يطمح إليها.
والقسم الثاني/ يثور من أجل تحقيق الاحتياجات الإنسانية الأساسية مثل الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، وهذا النوع لا تهدأ ثورته ولا تفتر همته إلا بتحقيق المطالب التي ثار من أجلها.
القسم الأول يمكن استئناسه وتدجينه وتقليم أظافره من خلال ما يمنحه له النظام من عطايا وامتيازات تقل أو تزيد حسب مدى سيطرة النظام على السلطة ومدى إحكام قبضته عليها، وحسب قوة المعارضة وتأثيرها وشعبيتها، وإن كان المعارض خارج البلاد فقد يُستأنَس ويُدّجَّن من خلال المنظمات الدولية التي تتبناه لتهدد به النظام وقت الحاجة إلى ذلك.
أما القسم الثاني فغالبًا ما ترفض السلطة الاعتراف به وبما يُطالب به لذا ينكل به ويطارد داخل البلاد وخارجها، كما تلصق به التهم، وتشوَّه صورته، ويُهيَّجَ الشعبُ ضِدَّه حتى يتعامل معه الجميع على أنه مارق آبق!
الشواهد تشير إلى أن المعارضة كلما كانت قوية كلما اضطرت السلطة إلى الاعتراف بها والسماع لصوتها؛ لأن المعارضة القوية تستطيع أن تكسب مؤيدين جُدد فتتسع رقعتها ويزيد نفوذها، مثلما يحدث في دول الغرب!
القسم الأول لا يتورع عن تبادُلِ الاتهامات مع النظام، كما لا يتورع عن نشر الفضائح الشخصية والسلوكية وشعاره في ذلك أن (الغاية تبرر الوسيلة) وأن (السياسة هي فن المُمكن) بغض النظر عن ماهية هذا المُمكن.
أما القسم الثاني فيركز على تقويض أركان النظام وشلِّ مفاصِلِه بدون التورط في مهاترات تستنزف قواه، ودون أن يُجر إلى معارك جانبيه تثنيه عن هدفه الأساسي.
إن الشواهد تشير إلى أن المعارضة كلما كانت قوية كلما اضطرت السلطة إلى الاعتراف بها والسماع لصوتها؛ لأن المعارضة القوية تستطيع أن تكسب مؤيدين جُدد فتتسع رقعتها ويزيد نفوذها، مثلما يحدث في دول الغرب!
وعلى النقيض مما يحدث في دول الغرب نجد أن أنظمة الحكم في الدول العربية عامة ودول الخليج خاصة تتبنى بعض الأبواق وتطلق عليها مُعارضة (سياسية أو اجتماعية، أو دينية)، وهي في الحقيقة معارضة كرتونية هشة، وأعجاز نخل خاوية، ودُمى تُحركها قوى لتنفذ ما يُملى عليها وهي لا تملك من أمر نفسها شيئًا.
من هنا نعلم أن البون شاسع بين المعارض الذي يتعامل مع السلطة بلغة المصالح والحسابات والمواءمات وبين الثائر الذي يتعامل معها بلغة الحقوق ومدى تحقيقها على أرض الواقع.
مظلة الثورة تتسع لجميع طوائف المجتمع بما فيهم كل مُعارض وطني حرٍّ وشريف، بدون تفرقة ولا تمييز، وبدون إذن من أحد
أولًا/ الثائر والمعارض بين تشابه الجلباب واختلاف اللباب
إن الثورة حقٌ من حقوق الشعوب التي ترزخ تحت سطوة الأنظمة المُستبدة؛ لتمكين الشعب من تقرير مصيره، واختيار حاكمه، أما المعارضة فقد تكون للتنافس على الحكم، وليس من الضروري أن تعبِّرَ عن رأي الشعب، فقد تكون معارضة فاسدة ضد نظام جيد.
الثورة لا تهدف إلى الاستيلاء على الحكم لأشخاص محددين بل تهدف إلى تحرير الشعب من قبضة جلاديه، وهذا على عكس المعارضة التي تهدف إلى الاستيلاء على الحكم لنفسها.
الثورة يغلب عليها الطابع العفوي وتستمد مطالبها من المبادئ الأخلاقية والقيم الدينية والمصالح الإنسانية، كل ذلك على عكس قوى المعارضة التي تحكمها برامج حزبية ورؤى شخصية وضوابط لا تهدف في مجملها إلى الصدام مع السلطة بقدر ما تهدف إلى تحقيق ما تتطلع إليه من مصالح.
مظلة الثورة تتسع لجميع طوائف المجتمع بما فيهم كل مُعارض وطني حرٍّ وشريف، بدون تفرقة ولا تمييز، وبدون إذن من أحد.
إن ما يميّزُ الثورة عن المعارضة هو أن المعارضة تخور قوتها ويخفت لهيب جذوتها حال استقطاب رموزها أو التخلص منهم، بينما تزداد الثورة اشتعالًا كلما حاولت السلطة الالتفاف عليها أو التنكيل برموزها.
كما أن الموجات الثورية قد تهدأ حينًا وقد تضطرب أحيانًا إلا أنها لا تتوقف عن الغليان في صدور وأذهان وضمائر أصحابها مهما تعاقبت عليهم الأحداث ومهما قدموا من تضحيات.
الثائر أحرص الناس على أمن واستقرار الوطن، وأحرص الناس على حماية خيراته ومُقدراته، على عكس ما يُتهم به زورًا وبهتانًا لتشويه صورته ولتفخيخ أهدافه ولتهييج الشعب ضده
والمعارض ليس بالضرورة أن يكون ثائرًا؛ فقد يكون المعارض وجهًا آخر للديكتاتور لكن المصالح تتضارب، لذلك فحدة المعارضة تكون حسب مدى تضارب المصالح، ومتى اتفقت المصالح تلاشت المعارضة، أما الثائر فإنه يثور من أجل القيم والمبادئ ولا يهدأ حتى تتحقق غايته لذلك لا تثنيه الإغراءات ولا تكفيه الوعود.
وخير مثال على ذلك هو أن أهل مكة ظنوا أن النبي ﷺ إنما جاءهم مُعارضًا فقالوا له: "نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة"، ولأن النبي ﷺ كان ثائرًا على عقيدة المشركين برمتها لم يستجب لإغراءاتهم له بالمال والجاه والسلطان وغير ذلك مما عرضه عليه زعماء قريش من لعاعة الدنيا، وقال ﷺ قولته الباقية إلى يوم الدين: "فوالَّذي نفسي بيدِه لأُقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتَّى تنفرِدَ سالفتي أو لَيُبْدِيَنَّ اللهُ أمرَه" (صحيح ابن حبان)
إن الأيام والأحداث أثبتت أن الأنظمة الديكتاتورية المستبدة ما هي إلا قوى معارضة ضد الحق والكرامة والحرية والعدالة وضد إرادة شعبها في تقرير مصيره وأن الشعوب ما ثارت ضد هذه الأنظمة إلا لأنها لم تفِ بالعقد الذي أبرمته بينها وبين الشعوب اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا.
والثائر أحرص الناس على أمن واستقرار الوطن، وأحرص الناس على حماية خيراته ومُقدراته، على عكس ما يُتهم به زورًا وبهتانًا لتشويه صورته ولتفخيخ أهدافه ولتهييج الشعب ضده، كما أن الثائر لا تهدأ ثورته بالصفقات ولا تفتر بالتنازلات ولا تتلاشى بالتسويات والصفقات ولا بالحلول الوسط؛ لأن كل ذلك لا يتحقق بين المستبد والمقهور (الثائر) فالمستبد لا ينسى الدرس ويتحين الفرصة للانقضاض على خصمه ولا يتركه إلا صريعًا.
والثائر لا يهزمه سجن ولا اعتقال ولا نفي ويظل في عنفوان قوته طالما ظل مُقاومًا، ولو كانت مقاومته ضعيفة؛ فالثائر معركته معركة صفرية وحاله حال عنترة بن شداد حين قال:
لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ :: بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
ماءُ الحَياةِ بِذِلَّةٍ كَجَهَنَّمٍ :: وَجَهَنَّمٌ بِالعِزِّ أَطيَبُ مَنزِلِ
والثائر يؤمن بأن ما يُطالب به من حرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية لا يُوهب بل يُنتزع، لذلك فهو يعد نفسه لمواجهة صفرية مع النظام لا تنتهي حتى تتحقق مطالبه كاملة.
يقول الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود:
سأحمل روحي على راحتي :: وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق :: وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
الثورة يُحركها الاضطهاد وانتهاك الحريات وسلب الحقوق، لا الفقر وتدني مستوى المعيشة
ثانيًا/ قراءة في ثورات الربيع العربي
إن ما يجب التأكيد عليه هو أن الثورة يُحركها الاضطهاد وانتهاك الحريات وسلب الحقوق، لا الفقر وتدني مستوى المعيشة، لذلك نرى أن الفقراء الذين ينضمون للثورة إنما ينضمون إليها لتحقيق مطالب معينة ثم ما يلبثوا أن ينفضوا عن الثورة ويخذلونها بل ويتهمونها بأنها السبب فيما وصلوا إليه وفيما وصلت إليه البلاد، والسبب في كل ذلك أنهم عندما انضموا للثورة كانوا عبارة عن مجموعات في جزر منعزلة وكل مجموعة لها مطالبها الفئوية الخاصة فهم في النهاية مجموعة من المطالب وليس مجموعة من المبادئ، والفرق بين الأمرين شاسع!
إن السبب الرئيس للقضاء على ثورات الربيع العربي هو تقزيمها وتفريغها من مضمونها وتحويلها إلى مجرد معارضة لها مطالب فئوية وبالتالي تنفض بمجرد تحقيق مطالبها أو بعضها!
أما الثورة المصرية فقد قُزِّمَت وفُرِّغت من مضمونها وتحويلها إلى مجرد معارضة حين غادرت الميادين وجلست على مائدة الحوار مع من قامت الثورة ضدهم!
وهكذا كان الحال مع الثورة اليمنية حين حُوِّلَت إلى مجرد صراعات قبلية! ومع الثورة التونسية والليبية والسودانية حين التفت المعارضة حولها واستخدمتها للضغط على الأنظمة لتحقيق آمال وتطلعات تخصها، وبالنسبة للثورة السورية فقد نجح النظام المجرم من اتهام الثورة بأنها معارضة مسلحة خارجة عن القانون، ومن هنا أباح النظام لنفسه الإفراط في استخدام القوة لقمعها.
ثورات الربيع العربي أثبتت أن الثوار يفتقدون الخبرة الكافية في كيفية إدارة الدول محليًا ودوليًا، وكذلك يفتقدون إلى تأييد الكتلة الصلبة التي لديها الدراية الكافية
هنا يمكننا القول إن السبب الأساسي لإجهاض ثورات الربيع العربي هو عدم إدراك القائمين على هذه الثورات أن إسقاط النظام معناه اقتلاع المعارضة الكرتونية الطامعة والبائسة (الدولة العميقة) من جذورها، وغفلتهم كذلك أن (الجلالة) التي تعودت على أن تقتات على الخبائث والقاذورات لا تزكَّى ولا يحل لحمها حتى تعزل تمامًا وتقتات على الطاهر الطيب.
إن تجربة ثورات الربيع العربي أثبتت أن الثوار يفتقدون الخبرة الكافية في كيفية إدارة الدول محليًا ودوليًا، وكذلك يفتقدون إلى تأييد الكتلة الصلبة التي لديها الدراية الكافية في هذا الجانب لذلك فوجئت هذه الثورات بفلول الدولة العميقة تخرج عليهم لتقوِّض كل المحاولات التي تهدف إلى إقصاء النظم الديكتاتورية المستبدة لا لشيء إلا لأن فلول الدولة العميقة لم تتعود على أن تمارس أعمالها في النور.
وللحديث بقية في الجزء الثاني من نفس الموضوع إن شاء الله تعالى