بل في الاصطلاح مشاحة!

الرئيسية » خواطر تربوية » بل في الاصطلاح مشاحة!
بل في الاصطلاح مشاحة!

قاعدة "لا مُشاحَّة في الاصطلاح" من القواعد الأصولية التي انتشر استعمالها العامي.

والقصد منها أنه لا وجاهة للاختلاف والتنازع في التسمية أو تعيين اللفظ بعد الاتفاق على المعنى والمضمون، وفي معجم "لسان العرب": "تَشَاحُّوا فِي الْأَمْرِ وَعَلَيْهِ: شَحَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَبَادَرُوا إِلَيْهِ حَذَرَ فَوْتِهِ، وَيُقَالُ: هُمَا يَتَشَاحَّانِ عَلَى أَمْرٍ إِذَا تَنَازَعَاه، لَا يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفُوتَهُ، وَالنَّعْتُ شَحِيحٌ، وَالْعَدَدُ أَشِحَّةٌ"، والاصطلاح افتعال من الصُّلح، وهو اتِّفاق أهل صنعة على وضعٍ معيّن.

وصحيح أنّ كثيرًا من المصطلحات حمّالة أوجه، لذلك العبرة بالمضامين والمقاصد، لكن ذلك لا ينافي أهمية الاصطلاح ولا يقلّل من خَطَرِه؛ لأنّ الألفاظ ليست بريئة من خلفياتها الثقافية والحضارية، ولا استعمالها بالأمر الهيّن في أمور الثقافة والعلوم عمومًا، وفي أمور الدين بصفة خاصة.

بل إنّ المعركة الفكرية والنفسية الدائرة اليوم مفتاحها التلاعب بالمصطلحات قبل بثّ المضامين، لذلك كانت أهم وأخطر مداخل تشكيل الوعي أو العبث به هي مداخل التعريف والاصطلاح.

الكافرون بالله تعالى يتعمدون عدم استعمال مصطلح الغيب وعوضًا عنه الميتافيزيقا أو الماورائيات، وكذلك يستبدلون مصطلح الألوهية بالقوى الكونية أو الطبيعة الأم، وتجدهم ينسبون الخوارق والعجائب للمجهول أو لإلغاز الوجود وغموضه

مثال ذلك: فلسفات التأويلات الوجودية التي تبدو لنا مجرد اختلافات ثقافية ثريّة، تبدأ جذورها من عداوة الدين والاستكبار العقلي؛ فالكافرون بالله تعالى يتعمدون عدم استعمال مصطلح الغيب وعوضًا عنه الميتافيزيقا أو الماورائيات، وكذلك يستبدلون مصطلح الألوهية بالقوى الكونية أو الطبيعة الأم، وتجدهم ينسبون الخوارق والعجائب للمجهول أو لإلغاز الوجود وغموضه، فيعدون ما استُغلِق عليهم معضلة لا حلّ لها، بينما نعتقد نحن أنه مما استأثر الله تعالى بعلمه! أوَليس بين مصطلحات الاعتقادين فرق في المُنطلق والمنتهى والعاقبة؟!

“يقول المنكرون: "لا عِلمْ!"، ويقول الحائرون: "لا علمَ لنا!"، ويقول المؤمنون: "لا علمَ لنا إلا ما علمتَنا!" [مصطفى صادق الرافعي: السحاب الأحمر]

وتأمل في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم} [البقرة: 104]، جاء في تفسير ابن كثير للآية: "نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يتخيرون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص - عليهم لعائن الله - فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا، يُوَرُّون بالرُّعُونة، كما قال تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46]، وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون : "السَّامُّ عليكم"، والسام هو: الموت، ولهذا أُمِرنا أن نرد عليهم بـ "وعليكم"، وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا، والغرض: أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولًا وفعلًا"

التصور الإسلامي لحرية الرأي والجهر بالكلام وصياغة التعبير يختلف عما عداه من تصورات، ويفترق عنها تمامًا

ومما جاء في تفسير القرطبي: "في هذه الآية دليلان: أحدهما/ على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض... الثاني/ التمسك بسد الذرائع وحمايتها... والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع، أما الكتاب فهذه الآية، ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سب بلغتهم، فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ؛ لأنه ذريعة للسبّ".

والخلاصة أن الله تعالى نهى المؤمنين عن التلفظ بلفظة إذا تبين سوء الدلالة الكامنة فيها، بغض النظر عن حسن نية قائلها، ففي هذا الهجر للفظة صيانة لا للسان فحسب عن النطق بما يمكن أن تمثل انحرافًا في المستقبل أو تحمل في باطنها توّا هذا الانحراف، بل إيصاد الباب أمام المواربات الفكرية التي تفتح المجال للتلبيس والفوضى والفساد الفكري.

وإن التصور الإسلامي لحرية الرأي والجهر بالكلام وصياغة التعبير يختلف عما عداه من تصورات، ويفترق عنها تمامًا، ولا تجد مثل هذه الموازين الدقيقة والضوابط الحاكمة فيما عداه، ومن ثم كان لزامًا توخي الحذر والتدقيق عند اقتباس الاصطلاحات.

"تحيزاتنا تقف بيننا وبين الواقع وتلوِّن إدراكنا بذاتيتنا، ولذا فإننا سنطرح رؤانا بقليل من التواضع والانفتاح وسنصغي لما يقوله الآخر، مدركين أيضًا أن ما سيقوله متأثر بتحيزاته، مما يجعلنا ندرك أنَّ العملية المعرفية عملية حوارية اجتهادية" [عبد الوهاب المسيري: العالم من منظور غربي]

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …