سبق الكلام في الجزء الأول عن الحيرة عند اختيار مجال عمل أو اتخاذ قرار بالبقاء فيه أو تركه، إذ تصعب الموازنة عادة بين العائد المالي والرسالية الكامنة، وفي هذا الجزء نتناول موازنة الشغف أو الميل الشخصي في مقابل العائد المالي.
بداية، مما لا يلزم الجمع بينهما لزومًا شرعيًّا ولا حياتيًّا: الشغف والمال؛ فقد يميل المرء لطلب علم أو يحب إتقان مهارة لكنها لا تعود عليه بمكسب مالي أو لا يُوفّق هو للتكسب المالي منها.
وبناء عليه يصير مضطرًا لتعلم مهارة أو تخصص بدافع تحصيل عائد مادي، بينما يظل شغفه ممارسة شخصية ذات عائد معنوي، هذه الدوافع والاضطرار مشروع ما دامت مجالات الشغل مشروعة، وليس فيها ما يُذَم أو يُعاب من فكرة الاضطرار أو انفكاك الجهتين.
وإنما المطلوب إعمال المرء لعقله في موازنة أمور نفسه، وتخير الأصلح له وفق ظروفه وأهدافه وأوليّاته، ضمن نطاق الحدود الشرعية؛ كي لا يُضطر نفسه لما ليس مضطرًا إليه حقيقة، فيبذل الجهد على مضض وينفق العمر في كَدَر!
والمطلوب كذلك أن يوضع في الحسبان العائد المعنوي كما العائد المادي، وما يبذله المرء من نفسه وعمره ووقته في مقابل تلك العوائد.
صقل الشخصيّة من خلال التجارب المهنيّة يعتمد على وجود أرضيّة شخصيّة قائمة بالفعل ليبني المُجرِّب عليها أو يعدّل فيها
ثم إذا كان القصد أن الشغف أقرب لهدف "تحقيق الذات"، فإن صقل الشخصيّة من خلال التجارب المهنيّة يعتمد على وجود أرضيّة شخصيّة قائمة بالفعل ليبني المُجرِّب عليها أو يعدّل فيها، لا أنّ مجال الشغل بذاته سيخلق للعامل شخصيّة من عَدَمٍ مَحْض! وإلا صارت العملية ومحصّلتها أشبه باللعب العشوائي في أزرار آلة أجنبية لا يفهم صاحبها لغتها أدنى فهم، فاحتمال إفسادها بالتجريب قبل الفهم أعلى مما لو كانت التجربة على قدر من الفهم المبدئي بلغة الآلة، لتتاح له التجربة على قدر من البصيرة، لذلك لا بد من الانتباه لوهم الربط بين تحقيق الذات والهيلمان المهني "الكارير"، فلم يعد الخروج للعمل أو تحصيل وظيفة ببساطة لغاية الكسب الحلال كما يفترض في الأساس، بل لغاية إنشاء مسار مهني "كارير" وإتخام السير الذاتية "السي في"، اللذين صارا هدفًا حتميًّا اليوم لأي موجود وإلا لَفِظَه الوجود!
فإذا سلّمنا بذلك التوجه الواقع، ووافقنا على أن المسار المهني صورة "من" بين صور أخرى عديدة لتحقيق الذات، عادت عقد النقص وقوالب الاستيراد لتفرض علينا تصورها بأن الكارير هو الوسيلة لتحقيق الذات، بل لتشكيل الذات من عَدَم إذا شئت! فسواء كانت شخصيتك ضعيفة أو لا شخصية لديك على الإطلاق، وسواء كنت على وفاق مع غاياتك أو تعيش فوضى في أولوياتك، وسواء كنت تشعر بمسؤولية الوجود أو تفتقر لمعنى الحيــاة، حلّ كل تلك الإشكالات جميعًا: أن تتوظف وتبني الكارير! وستجد ذاتك التائهة أثناء الطريق بصورة ما، وتحلّ كل المشاكل المستعصية بالهروب منها، وتحقق كل ما لم تكن تحلم بتحقيقه يومًا ما، وربما تنفق عمرك لتكتشف أنك قد حصّلت كلّ ما لم تكن لتريده فعلًا أو تحتاجه أصلًا! وما كان أغناك لو أنك تفكّرت بصدق من البداية في غاياتك، ومعاني حياتك، وموازنات مسؤولياتك!
يمكن أن تعمل في مجالٍ بقصد الكسب إذا كان المال أولى، وبالتوازي تصقل شغفك من جهات أخرى، كالتدرب في مؤسسة ما ولو بدون مقابل طالما لم يعد المال هَمًّا
وأما من لم يَصقُل شغفه بعد ولا تمرَّس فيه، بما يؤهّله للعمل بأجرة معتبرة، أو كان مجال شغفه يغلب عليه الطابع الرسالي أو التطوعي، ولم يُختَرَع فيه بعد مسارٌ مهنيٌ مدفوع، والمقترح في الحالين أن يجعل المرء في باله إمكانية فصل الميزانين حين يتعذر الجمع، وإمكانية السير في مسارات متوازية في الحياة لكل منها نظامها وعائدها الخاص.
فيمكن أن تعمل في مجالٍ بقصد الكسب إذا كان المال أولى، وبالتوازي تصقل شغفك من جهات أخرى، كالتدرب في مؤسسة ما ولو بدون مقابل طالما لم يعد المال هَمًّا، أو يمكن الصبر على مجال الشغف حتى يصقل صاحبه مهارته فيه، بما يتيح له التكسب منها بطريق العمل الحرّ، إذا لم يكن محتاجًا للمال على وجه السرعة.
وهذه بعض المقترحات وغيرها كثير، لموازنات مشروعة ومسارات جائزة ومراحل واردة، فليس ثمة خيار قطعيّ ولا شكل نهائي بينها، المهم أن يصل المتسائل لنقطة يأخذ فيها بموازنة ما ويشرع في العمل، وإلا ستطول عمليّة اتخاذ القرار ويتّخذها في ذاتها عملًا!