من أهم مفاتيح الرشاد في اتخاذ القرار، وامتلاك المؤمن لزمام نفسه وحياته اللذين هو المسؤول عنهما، هو الحذر من تنصيب الناس وكلامهم أربابًا محاسِبين ومحاكِمين، ومع أنّ الله تعالى لم يجعل مَرَدَّنا إلا إليه وحسابنا إلا عليه وحده: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم} [الغاشية: 25، 26]، {وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، لكننا أَبَيْنا رحمة التوحيد، وأشقينا أنفسنا بتعدد المحاسبين، فصرنا نحسب ألف حساب لكلام الناس وظنون الناس ورضى الناس واعتبارات الناس وموازين الناس ومعايير الناس!
إن التأمل في التضخيم الدرامي للفظة "الناس" فحسب، كفيل بتحطيم دعوى الواقعية التي يتستر خلفها من يتستّر، فكأنّ على كل فرد مراعاة واقع العالم كله في نفسه! مع أن الواقع يقضي بأنه لا يَمَسّ الفرد منا حقيقة من تَعداد سكان مجتمعه (لا العالم أجمع!) إلا أفراد معدودون، من الأهل والأقارب والأصحاب والمعارف، وهذا محيط معدود مهما كثر، ومحدود مهما اتسع، بل ليس كل أفراده يعنينا رأيهم أو نَطلب الوجاهة عندهم، أو نُطالب بإرضائهم ومجاراتهم، شرعًا أو عرفًا، فتأمّل واعتبر!
حين يوضع كلٌّ في قَدره، يصير من المقدور التعامل معه، بخلاف تكتيلهم جميعًا في كتلة مُصمَتَة اسمها "واقع الناس"
وهكذا حين يوضع كلٌّ في قَدره، يصير من المقدور التعامل معه، بخلاف تكتيلهم جميعًا في كتلة مُصمَتَة اسمها "واقع الناس"، الذي يُخيَّل لك في رأسك بصورة مليون نَسَمَةٍ على الأقل، لا سبيل لقهرها أو مغالبتها، ولا مَفرَّ من الانقهار أمامها والتسليم لها! والانسحاق السهل تحت الضغط المجتمعي المُضَخَّم، هو علامة أكيدة على الهشاشة الشخصية على المستوى الفردي، ومن مجموع هشاشة الأفراد تكون شدة اتّكالهم على بعضهم، في استمداد الثبات والقيمة من بعضهم، فتأمل الدوامة، وتفكّر!
إنّ الناس أبدًا سيتكلمون ويظنون وينتقدون، فماذا يعنيك من كلام الناس؟ من هم الناس في ميزان مرجعيتك وتقديرك؟ هل الإشكال في أنهم يخوضون كما يخوض البشر، أم أنّ الإشكال ممّن يكشف صدره للخائضين ليخترقوه في الصميم؟ وإذا استحضرتَ أنّ كل فرد من البشر يتكلم ويعتقد ويتصرف وفق مرجعيته أو عجينهِ من المرجعيات، فما لك وعجين الناس؟ ماذا عنك أنت؟ ماذا ترى أنت؟ ماذا تعتقد أنت؟ ماذا ترتضي أنت؟ ماذا تخشى أنت؟
أَقبِل على نفسك أنتَ فخلّصها من عجينها وانجُ بها، أمّا أن تضيف لعجينك من عجين الناس، ثم تقعد محترقًا في فرن الواقعية، فتلك اللاواقعية بعينها؛ لأنك تُهدر وتضيّع ما كان يمكن أن يكون عليه واقعك بالانقياد الأحمق والتسليم الأعمى لما عليه واقع الناس من حولك.
إن التعويل على الناس في كل حساب يعكس عقدة نقص عند صاحبها، اسمها الاحتماء بظلّ أو "عُزوة" المجموع لإعفاء النفس من المَلامة
ثم إن التعويل على الناس في كل حساب يعكس عقدة نقص عند صاحبها، اسمها الاحتماء بظلّ أو "عُزوة" المجموع لإعفاء النفس من المَلامة، فإذا صَعُب على قارئ - مثلًا - مستوى أسلوب أو عمق فكر ما، رَمَى المادّة جانبًا على الفور، متحجّجًا: "إنّ الناس لن تفهم مثل هذا الأسلوب أو الفكر"، بدل أن يعبّر مباشرة عن حاله فردًا: "أنا لم أفهم المغزى أو صَعُب عليّ الأسلوب"؛ فالأسلوب الأول ينفي أيّة احتماليّة لكون الإشكال من جهته، في سطحية اطلّاعه أو ضحالة لغته، أو غير ذلك، هذا النهج النفسيّ من التحامي بالكثرة وبالسائد، يرفع عن الفرد أيّة ملامة أو دافع للتعامل مع ذاته داخليًا، فالإشكال يكمن دومًا في شيء أو أحد ما خارج الذات، والأعذار حاضرة بعدد الناس، وقد لا يبدو أن في هذا المثال البسيط بأسًا، لكنك لو وسَّعته ليصير نهج حياة لظهر لك مدى البأس البئيس!
وتأمل فيما رَوَته السيدة أم سلمة - رضي الله عنها - زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: "كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَذْكُرُونَ الْحَوْضَ وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمًا مِنْ ذَلِكَ وَالْجَارِيَةُ تَمْشُطُنِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: "أَيُّهَا النَّاسُ!" فَقُلْتُ لِلْجَارِيَةِ: "اسْتَأْخِرِي عَنِّي"، قَالَتْ: "إِنَّمَا دَعَا الرِّجَالَ وَلَمْ يَدْعُ النِّسَاءَ!"، فَقُلْتُ: "إِنِّي مِنْ النَّاسِ"، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لكم فرطٌ على الحوض، فإيَّاي لا يأْتينَّ أحدكم فيذبُّ عني كما يذبُّ البعير الضال، فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحقًا" (رواه مسلم)، تأمل في رؤيتها - رضي الله عنها - لنفسها من الناس المَعنِيّين بخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وإصرارها على أن تسمع وتفيد ممّن لا يُفوَّتُ التعلّم منه بحال، ولو شاءت لسَوَّغَت لنفسها القعود، ولسايرت الماشطة في رؤيتها، وكلٌّ وما ارتضى لنفسه!
ما جدوى كَوْنِ كلِّ فَردٍ ذا إرادةٍ وعقلٍ ومسؤوليةٍ وحسابٍ مُستقلِّين؟ وكأنّ الواقع ليس نتاجًا بشريًا من بشر مثلنا وإن سبقونا
ولا ينفي ما سبق حقيقة وجود ووقوع الضغط المجتمعي، ولا يهوِّن من أثر ضيق خِناقه كواحد من كبرى ابتلاءات هذه الدّار الدنيا، وإنما النفي لحتميّة التّفتّت التام أمامه والانسحاق الشامل تحته، وإلا فما جدوى كَوْنِ كلِّ فَردٍ ذا إرادةٍ وعقلٍ ومسؤوليةٍ وحسابٍ مُستقلِّين؟ وكأنّ الواقع ليس نتاجًا بشريًا من بشر مثلنا وإن سبقونا! أو كأنه كان جامدًا على هيئة واحدة على مدار التاريخ، لم يتجدّد ولم يتعدّل على أيدي الأفراد غالبًا قبل الجماعات!
والقاعدة أن الشجرة لا يمكن أن تسبق البذرة، والبذرة تبدأ من الفرد في نفسه.