بلغ التقدم الحضاري في زماننا هذا مبلغًا عظيمًا، قرّب إليك البعيد وجعله في متناول اليد فأصبح العالم من خلال كبسة واحدة من أنامل يدك ماثلًا أمامك بالصوت والصورة، فلا مسافات تُطوى لتجتمع مع قريب أو صديق أو عالم ومتعلم، ولا تكلفة على اتصال وتواصل كما كان في العهد الماضي.
فقد كانت (رسائل شوق) مثلًا برنامج إذاعي يبث عبر الراديو والذي يجهل الجيل الحديث هذا الجهاز الذي طالما التف الناس حوله التفاف الفراش حول النور؛ ليسمعوا رسالة من ابن أو قريب أو حبيب لهم من الضفة الشرقية فيبلوا عروقهم شوقًا ويطمئنوا قلوبهم على أخباره وصحته ودراسته.
أوَ تذكر ساعي البريد يحمل لك ظرفًا مختومًا من أحدهم قد لا يفصل بينك وبينه إلا نهر أنت غربيه وهو شرقيه فتتلقف الرسالة وكأنك تلتقي بمرسلها، ومع ذلك لم يعدم الناس في ذلك الوقت طريقة للتواصل.
واليوم – وبرغم هذا التقدم الذي يغزونا في عقر دارنا لم يزدنا إلا بُعدًا - اتسعت الهوّة بيننا اتساعًا قد يحتاج لعبور القارات لعلّ الشمل يجتمع من جديد.
ويظل السؤال حاضرًا في أذهان الكثير منا، لماذا كل هذا البعد والاغتراب مع أنّ كل الفرص متاحة للملمة كل هذا الشتات ولم تعدم؟!
في زمن التواصل وتوافر وسائله وطرقه إلا أنّ القلوب فقدت المعاني التي تشجع على ذلك فسحقتها المادية المفرطة في زمن تفوق الماديات وتراجع المعاني الإنسانية وانسلاخ الإنسانية من قيمها ومعانيها الروحية
تأملت كثيرًا في أسباب ذلك ومن خلال قراءة الظروف ومعاينة التجارب من حولي، وجدت - حسب وجهة نظري - أنّ خللًا طرأ على مفاهيمنا فطغى على أفكارنا وقلوبنا فأثر في سلوكياتنا وتعاملاتنا؛ ففي زمن التواصل وتوافر وسائله وطرقه إلا أنّ القلوب فقدت المعاني التي تشجع على ذلك فسحقتها المادية المفرطة في زمن تفوق الماديات وتراجع المعاني الإنسانية وانسلاخ الإنسانية من قيمها ومعانيها الروحية، وتراجعها في المبادئ السامية التي استقتها من موروثها الديني والتاريخي، وفي زمن المادية المفرطة المصاحبة للسرعة الهائلة في كل شيء حتى وصلت لسرعة الدخول في العلاقات وسرعة أكبر في بترها من الجذور - بغض النظر عن الصلة وطبيعتها فكلها في الهواء سواء - أكانت علاقة مصاهرة ونسب أو صلة رحم أو أخوّة إيمانية وصداقة على مر السنين، فلا حرمة ولا قدسية لأي منها بين الأطراف المختلفة والمتشاحنة - إلا من رحم الله - فتأمل النصوص التي تتحدث عن العلاقات والصلات.
وسأتناول هنا الصداقة وأخوة الإيمان نموذجا لسببين:
الأول/
التقليل من شأن هذه الأخوّة الإيمانية والصداقة في زماننا بحجة أنها لا تقوم على أساس كما صلة الرحم والصلات العائلية، وأنّ ما كان في زمن النبي الأكرم لا ينطبق على زماننا؛ لاختلاف الظروف والواجبات، وأن كل صلة خارج حدود العائلة لا أسف عليه بل نجد أنّ هذا المرض لم يقف عند هذا الحد بل استشرى بين الأشقاء وبين الأبناء وآباءهم وعلى ذلك قِسْ.
الثاني/
إذا كانت الأخوّة والصداقة لها هذا الشأن والحرمة في شرعنا العظيم فما بالك بصلة الرحم والنسب والقرابة؟ وإمكانية المواءمة والتوفيق بينهما أمر يسير لا يلزم التعقيد!
لماذا على أول منعطف في الطريق وأول عثرة في خلاف بسيط تؤول الصلة إلى قطيعة وتدابر؟!
في هذه الصفحات لا أستطيع أن أقدم بين يدي القارئ الكريم كل النصوص التي تتحدث عن الصداقة وأخوّة الإيمان والتأكيد على توثيق عُراها وبسط الوجه والقلب فيها، فليرجع القارئ الكريم للقرآن الكريم والسنة النبوية وقصص السابقين من صحابة وتابعين رضوان عليهم ودونك كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري وينظر ما جمعه تحت باب مثلًا: إذا أحب العبد أخاه، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
وكما سبق وذكرت الدافع لكتابة هذا المقال اتساع الهوّة وازدياد الشرخ بين الأحبة لدرجة وصلت لقطيعة لم تراعِ سنوات طوال من العِشرة والصلة الوثيقة ومشاركة الظروف حلوها ومرها.
والقرآن الكريم يؤكد على الصلة التي تجمع المؤمنين والميثاق الذي يربطهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ثم انظر للآية الكريمة عن الصديق: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ} [النور: 61]؛ فقد جاء في تفسير القرطبي عن الآية الكريمة: "والصديق من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك. ثم قيل: إن هذا منسوخ. وقيل: هي محكمة، وهو أصح"، ثم أضاف الشيخ رحمه الله: "قرن الله - عز وجل - في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة، لأن قرب المودة لصيق". قال ابن عباس في كتاب النقاش: "الصديق أوكد من القرابة؛ ألا ترى استغاثة الجهنميين فما لنا من شافعين ولا صديق حميم"، قلت: ولهذا لا تجوز عندنا شهادة الصديق لصديقه، كما لا تجوز شهادة القريب لقريب"
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا زار أخًا له في قرية أخرى فأرصد الله له على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه قال أين تريد، قال أريد أخًا لي في هذه القرية قال هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أنى أحببته في الله - عز وجل – قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" (صحيح مسلم)، وورد في الأدب المفرد حديثه صلى الله عليه وسلم: "ما تحابّ الرجلان إلا كان أفضلهما أشدّهما حبًا لصاحبه"
وهذه مقتطفات مضيئة وصفحات مشرقة تفتح لك آفاقًا واسعةً وتمهِّدُ لك سُبل الخير؛ لتتجاوز ابتلاءات الحياة وتساعد غيرك على تجاوزها فنهوّن على بعضنا الطريق... وهذا أضعف الإيمان، وأتساءل - ويظل نفس السؤال يتردد على ألسنة الكثير منا: "لماذا على أول منعطف في الطريق وأول عثرة في خلاف بسيط تؤول الصلة إلى قطيعة وتدابر؟! والنبي – صلى الله عليه وسلم- يحذرنا "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" (صحيح البخاري)
الجلوس وجهًا لوجه مع الطرف الآخر، وأن تستمع إليه وتشاهده وهو يتحدث يصلك بذلك منه معان تعجز وسائل التواصل عن توفيرها والإحاطة بها.
وعلى ما يبدو أن السبب في ذلك يؤول إلى ما يلي:
أولًا/ عدم تفهم اختلاف الطبائع الناشئة عن نشأة كل واحد فينا في بيئة تختلف وجهة نظرها ورؤيتها للأمور
فعند بادرة خلاف بسيط تضيق نفسك بصاحبك وبنفسك دون أن يُكلّف أحدُنا نفسه للتريث والفهم منه مباشرة والاستماع له للتعبير عن وجهة نظره.
ثانيًا/ العزة في المبادرة لرأب الصدع والإحجام عن أن يكون الواحد منا أول من يبدأ صاحبه بالسلام
ولا ننسى قول نبينا: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" (صحيح البخاري)
ثالثًا/ الاعتماد على وسائل التواصل في الحديث عن المشكلة، بدون إيجاد فرصة للالتقاء المباشر
فالحديث في أمرٍ ما بوساطة الكتابة لا يوصل الرسالة على حقيقتها إطلاقًا؛ فإن الجلوس وجهًا لوجه مع الطرف الآخر، وأن تستمع إليه وتشاهده وهو يتحدث يصلك بذلك منه معان تعجز وسائل التواصل – على الرغم من تقدمها - عن توفيرها والإحاطة بها.
رابعًا/ خيبات الأمل في بعض الأشخاص وفقد علاقات متينة في السابق هذا كله يصب في قلب المرء رعبًا من فقد وخسارة جديدة
شتّان بين آمنٍ واثق أنه لا يهون على قلب أحدهم وأنه سيتفهمه صاحبه ويعذره إن حدث خلاف أو سوء فهم، وبين شخص فقد أمانه وثقته نتيجة تجارب تركت ندبة في قلبه موجعة.
خامسًا/ التكلف في الصلات ولا سيّما في المناسبات
وهذا تكلف أضفناه نحن على أنفسنا، والحقيقة أن بسطة الوجه وسعة القلب تفوق أموال الدنيا كلها، تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" (المستدرك على الصحيحين)
كل ما يحتاجه المرء في حياته يدٌ تمتد إليه في فزعه أن اطمئن، وهاك يدي بيدك لنخوض مشوار التعافي، فنسير إلى الله عرجًا أو مكاسير، نساند بعضنا ونخفف عن بعضنا ثقل الحياة بخفة الروح ورقة القلب
وهذه بعض الأسباب لا كلها، ولا سبيل لتخطيها إلا أن تتمسك بحبل من السماء وتبتغي فيما عند الله وتتذكر أجر الكاظمين الغيظ فتستحضر قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]
ثمّ تأمل قول نبيّنا فيما جاء تحت باب النهي عن الشحناء والتهاجر: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا" (صحيح البخاري)
وبعد هذه العُجالة في الطرح تأمل أخي الكريم هل هذه الحياة التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة أتحتاج كل هذا الشقاق والنزاع؟
أهناك أجمل من أن نستدبر هذه الدنيا ونستقبل الأخرى بقلوب متراصة، نهوّن على بعضنا عثراتها وصعوباتها فيستظل أحدنا في ظل أخيه كواحة يتفيأ أفياءه وظلاله، إنّ كل ما يحتاجه المرء في حياته - وتحت كل هذه الضغوط فقط - يدٌ تمتد إليه في فزعه أن اطمئن، وهاك يدي بيدك لنخوض مشوار التعافي، فنسير إلى الله عرجًا أو مكاسير، نساند بعضنا ونخفف عن بعضنا ثقل الحياة بخفة الروح ورقة القلب، ندخل على الله زُمرًا، نُساق لجناته ونجتمع في ظلاله أحبة متحابين، وصدق صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه..." (صحيح البخاري)
لكل سلعة ثمن، وسلعة الله غالية.. ألا إنّ سلعة الله الجنة، ومن أراد الجزاء من الله لم ينتظر مقابلًا من بشر، ومن تذكر ما جاء في الأدب المفرد: "ما تحابّ الرجلان إلا كان أفضلهما أشدهما حبًا لصاحبه"، وأجر العفو وكظم الغيظ "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كُرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة" (صحيح البخاري)، فكم من ندبة تركت في قلب أخيك حينما غادرته وكم من جرح غائر في أعماقه وكم من كربة تركتها فيه، وأنت تسدل السِّتار على صلة كنتما فيها الكتف بالكتف، كم زرعت في نفسه من رعبٍ وإحجام عن الثقة في الآخرين بسبب خطوة استعجلت بها.
تأمل جزاء ربك الأكرم وضع نصب عينيك غايته وجزاءه فأنت تتعامل مع الله في تعاملك مع خلقه قبل كل شيء ولا تنتظر جزاءً من غيره
أيها الأخ الكريم..
إنها حياة لا دوام لها، فلنرتحل إلى الله بقلوب مقبلة متحابة؛ فهي خير من قلوب مثقلة بالتدابر والتشاحن والكراهية، وتأمل جزاء ربك الأكرم وضع نصب عينيك غايته وجزاءه فأنت تتعامل مع الله في تعاملك مع خلقه قبل كل شيء ولا تنتظر جزاءً من غيره - جلّ شأنه - اعقل بقلبك وعقلك هذه النصوص الكريمة عند كل مفترق طرق، ومع كل عثرة: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22]، فقد جاء في تفسير ابن كثير عنها: "فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك"، وتدبر قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] وورد في تفسير ابن كثير كذلك عنها: "أي: إذا ثار بهم الغيظ كظموه، بمعنى: كتموه فلم يعملوه، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم"، وقد ورد في بعض الآثار: "يقول الله تعالى: ابن آدم، اذكرني إذا غضبت، أذكرك إذا غضبت، فلا أهلكك فيمن أهلك"