إن من الملفت للانتباه، أن الله - سبحانه وتعالى - جعل مع كل فريضة افترضها نافلة سنّها؛ فمع الصلاة الفريضة جعل الله الصلاة النافلة، قبل الصلاة أو بعدها، أو قبلها وبعدها معًا، وجعل الله صلاة القيام (وهي صلاة النافلة الأعظم في يوم المسلم)؛ لفضلها وعظم ثوابها، وإن كانت السنن الرواتب قبل كل صلاة مفروضة وبعدها هي النافلة الآكدة والأهم، وكذلك هناك صلاة الضحى.
ومع فريضة الصوم في رمضان، جعل الله صيام النافلة طيلة العام، كصيام الاثنين والخميس، وصيام الثلاثة البيض من كل شهر، وصيام الستة من شوال، والتسعة من ذي الحجة، وصيام التاسع والعاشر من المحرم، وغيرها.
ومع فريضة الحج، جعل الله نافلة العمرة، في أي وقت من أوقات العام، وذلك على الرأي الذي يقول بأن العمرة سنة غير مفروضة.
ومع فريضة الزكاة، جعل الله نافلة الصدقة.
حتى إنّ ذكر الله تعالى، فيه الفريضة (وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)، وفيه النافلة (وهي بقية الذكر الآخر سواء كان ذكر الأحوال المخصوص، أو الذكر المطلق في أي وقت وعلى كل حال)، وهنا، تتجلى رحمة الله وفضله على عباده، فكيف ذلك؟
فإذا كانت فرائض العبادات هي الفارق بين الطالحين والصالحين من عباد الله، فإن نافلة العبادات هي الفارق بين الصالحين والسابقين المقربين من عباد الله
أولًا/ جعل الله النافلة كي تُتِم النقصَ في الفريضة، ويتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في فريضة الصلاة؛ فقد ورد أن الله يجبر النقص في صلاة الفريضة يوم الحساب بالنافلة؛ فإذا ترك أحد بعض فرائض الصلاة، فإن الله يجعل النافلة مكانها في ميزان الحساب يوم القيامة.
وثانيًا/ جعل الله النافلة في العبادات لزيادة الثواب ورفع الدرجات، فإن عباد الله الصالحين، منهم أصحاب اليمين الذين يأتون بالفرائض وربما لا يزيدون عليها، ومنهم السابقون المقربون الذين يزيدون من النوافل.
فإذا كانت فرائض العبادات هي الفارق بين الطالحين والصالحين من عباد الله، فإن نافلة العبادات هي الفارق بين الصالحين والسابقين المقربين من عباد الله.
وثالثًا/ جعل الله النافلة لزيادة التلذذ بعبادة الله، لعباده الصالحين وأوليائه المقربين.. فإن عبادة الله، وإن كانت لطلب الثواب والجزاء في الجنة، فإنها في ذاتها جنة، لا يعرفها ويتلذذ بها، إلا عباد الله الصالحون وأولياؤه المقربون.
وتلك التي قال عنها ابن تيمية: "إن في الدنيا جنّة، من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة"، وتلك هي جنة الطاعة، وقال إبراهيم بن أدهم: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف"؛ فعبادة الله، جنّة ولذّة في الدنيا، لا تقل عن جنّة ولذّة الجزاء في الآخرة، بل وربما تزيد، كما يقول أحدهم أيضًا.
التلذذ بالعبادة، لا يأتي إلا بالاستغراق فيها، وذلك بالاستزادة من نوافلها؛ فالفريضة في العبادات هي بمثابة الباب الذي يُفتح لرحاب الله، ثم يتجول المتعبد في هذه الرحاب بعد ذلك بالنوافل
ووالله، لقد رأينا ذلك وعشناه، برغم تقصيرنا الشديد وإذنابنا الكبير، فعندما يستغرق الواحد منا في عبادة الله لوقت، يحس بلذة، تفوق والله لذات الدنيا كلها من كل شهوات الحياة.
والتلذذ بالعبادة، لا يأتي إلا بالاستغراق فيها، وذلك بالاستزادة من نوافلها؛ فالفريضة في العبادات هي بمثابة الباب الذي يُفتح لرحاب الله، ثم يتجول المتعبد في هذه الرحاب بعد ذلك بالنوافل.
وهناك إشارة لا بد من التنوية إليها والتنبيه عليها: إن الذين يقتصرون على أداء الفرائض، وعلى الحد الأدنى من العبادات - وإن كان ذلك كفيلًا بنجاتهم من النار وإدخالهم الجنة بفضل الله تعالى – هم ممن يُخشى عليهم؛ لأنهم بذلك أقرب في الشبه من الذين يحومون حول الحمى ويوشكون أن يقعوا فيه.
المعركة بين الإنسان والشيطان كأنها مصارعة بين الطرفين، يضرب الشيطان ضربته بإيقاع الإنسان في الذنب أو التقصير، فيضرب الإنسان المسلم ضربته بالعبادة والذكر
والمعركة مع الشيطان، لا بد أن يستعد لها الإنسان المسلم بأكثر من سلاح وعتاد؛ فالفرائض في هذه المعركة كأنها الدروع التي يتقي بها المسلم ضربات الشيطان التي لا تتوقف، أما النوافل فهي كالسيوف والرماح والسهام التي يبادر بها المسلمُ الشيطان، فيرميه بها، وخير وسيلة للدفاع هي الهجوم، ولو استمر المسلم مدافعًا فقط بفرائض لا يتعداها، فربما يقع مهزومًا بعد تعب وجهد تحت الضربات الشيطانية المتتالية التي لا تتوقف، ولن يعطيه فرصة للنجاة وقوة في الدفاع مثل أن يبادر هو بهجوم لا يتوقف كذلك، بنافلة الصلاة ونافلة الصيام ونافلة الحج (العمرة) ونافلة الذكر.
وبتشبيه آخر/ عبادات المسلم ونوافلها كأنها أسوار يبنيها المسلم حوله للدفاع عنه ضد الشياطين، وهي أسوارٌ بعضها داخل بعض، سورٌ وراء سور، فأول هذه الأسوار في الخارج، أسوار النوافل غير الآكدة، ثم أسوار النوافل الآكدة، ثم الفرائض، وهكذا... تهجم الشياطين، فإن هي استطاعت أن تتجاوز سورًا بعد سور، فإنها ستجهد في النهاية وستعجز عن اقتحام كل الأسوار؛ لكثرتها وتتابعها، أما إن هي وجدت سورًا واحدًا، هو سور الفرائض ولا غيره، فإنها ستكون أقدر على اقتحامه كلما أرادت، لممارسة عملها في الوسوسة والإغواء.
وبتشبيه ثالث/ المعركة بين الإنسان والشيطان كأنها مصارعة بين الطرفين، يضرب الشيطان ضربته بإيقاع الإنسان في الذنب أو التقصير، فيضرب الإنسان المسلم ضربته بالعبادة والذكر.
ولكي ينتصر المسلم في مصارعته مع الشيطان، لا بد أن يُنوع من ضرباته، وأن لا تكون ضرباته ضربة واحدة، هي ضربة الفريضة لا غير، بل يضرب بالفرائض المتنوعة، وبالنوافل المتنوعة، فتكون الضربات المتنوعة والمتعددة، كما يفعل المصارع المحترف، لينتصر في النهاية.